يَتبارى السياسيون ويفخرون بإعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي ويعدون الناس بأنه سيكون لدينا ضخ سيولة قريباً، لا شك في ان الجميع متفق ومقتنع بأنه ليس في إمكان لبنان تجاوز المحنة إلاّ من خلال الصندوق. لكن هل القول إنّ ضخ السيولة بات وشيكاً من قبل الـ IMF حقيقة أو وهم؟
لم ولن ننسى التاريخ الأسود ولا سيما تاريخ 7 اذار 2020 الذي لُقب بـ»يوم عظيم» للحكومة اللبنانية، وعدم الدفع لحاملي سندات الأوروبوندز المستحقة، وإتخاذ القرار الكارثي بالتعثر المالي وهو بالحقيقة التخلف عن الدفع أي بحسب تصنيف الوكالات الدولية، أن التعثر يعني Default أو بحسب وكالة «فيتش» الدولية للتصنيف الإئتماني Default Restricted، علماً أن تراجع تصنيف لبنان في السنوات الماضية من B+ إلى B- وbb- إلى C حتى وصلنا إلى D، فكان عبر السنوات. كل الشركات والصناديق الدولية تُحذر من هذا الإنهيار الذي كان واضحاً لرؤيتها. لكن في الوقت عينه، فإن السياسيين يدفنون رؤوسهم في التراب كالنعامة، ويعتقدون أن المجتمع الدولي سيُموّل فسادهم من دون مراقبة أو محاسبة.
فمن بعد هذا التعثر المالي، خسر لبنان ما تبقى من الثقة الدولية، كما الثقة الإقليمية، ولا سيما الثقة الداخلية. هذا يعني أن استقطاب وضخ السيولة من قبل البلدان المانحة عبر الإستثمارات أو القروض أصبح مستحيلاً. كذلك حتى الأموال الموعودة من قبل مؤتمر «سيدر» والتي وصلت إلى نحو 11 مليار دولار كمشاريع إستثمارية، لا نستطيع الحصول عليها إلاّ من خلال مشروع متكامل ومتجانس ومتوافق عليه مع صندوق النقد الدولي.
والجدير ذكره أن الـ IMF يعمل كمصرف ضخم يقوم بتمويل وإقراض الدول والحكومات. لكن كأي مؤسسة مالية، هناك شروط قاسية ومتطلبات بالاصلاحات الضرورية واستراتيجية واضحة على المدى القصير والمتوسط والبعيد لضخ فلس واحد.
من جهة أخرى، إن المتطلبات الحاسمة من الحكومة تبدأ بتدقيق مالي واضح وشفاف على كل مؤسسات الدولة وخصوصاً المرافىء والمرافق البرية والبحرية ووزارة المال والضريبة على القيمة المضافة TVA ووزارة الإتصالات ومؤسسة كهرباء لبنان ومؤسسة المياه وكل الصناديق الداخلية، لأنه من البديهي أن يعلم الصندوق كيف ستُوفى الديون، وفي أي وقت قبل الإستدانة.
فقبل إيهام الشعب وتضليله بوعود كاذبة، على السياسيين والحكومات البدء بتحقيق أدنى متطلبات الصندوق الذي في أحسن الحالات يحتاج إلى أشهر طويلة لا بل سنوات.
نذكّر ونكّرر أنه قبل الإتفاق ومنح ملف متكامل ومتجانس ومتوافق عليه من كل الفئات، وبأرقام واضحة وشفافة، سنبقى على مستوى الكلمات والأحاديث والإستقبالات، وليس على مستوى المفاوضات الجدية والحقيقية والشفافة التي يُمكن من خلالها أن نوفّر لاقتصادنا بعض السيولة بالعملات الصعبة من خلال قروض متوافق عليها مع صندوق النقد الدولي. فبين الكلام والتطبيق، وبين الأحاديث والمفاوضات، وبين الأوهام والحقائق، هناك فجوة عميقة وحتى الآن لم يُبن أي جسر متين وحقيقي لردم هذا الفارق.
إننا ندرك تماماً كيف تعامل صندوق النقد الدولي مع البلدان المجاورة المتعثرة، مثل قبرص واليونان ومصر، وما كانت المتطلبات الحاسمة وخصوصاً التدقيق والتطبيق وتقديم الأرقام الواضحة والشفافة، والمشروع الإصلاحي وخطة العمل والملاحقة الدقيقة، قبل التقدم بأي خطوة. ففي لبنان لسوء الحظ، عوضاً عن التقدم نتراجع أشواطاً يوماً بعد يوم، ونبتعد أكثر فأكثر عن متطلبات الصندوق وأي اتفاق بنّاء معه.
فكيف يمكن للصندوق أن يثق بدولة تهدر سنوياً أكثر من ملياري دولار (40 ملياراً حتى الآن) في مؤسسة واحدة وهي كهرباء لبنان، وبعدها تطالب بالسلف عوضاً عن إعادة الهيكلة الداخلية؟
أخيراً، علينا أن نذكر أنّ صندوق النقد الدولي يُفاوض مع حكومة فعالة وليست مستقيلة، حتى إنتخاب رئيس جديد للجمهورية في تشرين الثاني 2022 والاتفاق على إنشاء حكومة جديدة. هذا يعني وبكل موضوعية وواقعية ان سنة 2022 ستذهب هدراً حيال كل تفاوض جدي مع صندوق النقد وليس هناك رؤية واضحة لسنة 2023 قبل الإستحقاقات الدستورية المقبلة.