أهداف حصر المساعدة الدولية بالتقنية “غير اقتصادية“
التخويف من نتائج تدخّل “صندوق النقد الدولي” في لبنان هو كمن يلبس “فزاعة” ليُخيف الشيطان. فمهما كانت شروط الصندوق قاسية وصعبة تبقى، بالنظر الى المسار الإنحداري الذي يسير به لبنان من دون فرامل، أخفّ وطأة من استمرار تلازم الأزمتين النقدية والإقتصادية، وأضمن نتيجةً، على المستقبل القريب.
على بُعد أيام قليلة من زيارة مرتقبة لوفد صندوق النقد الدولي إلى لبنان، استجابة للطلب الرسمي للحكومة من أجل تقديم الدعم التقني لإخراج البلاد من المأزق المالي، نشطت حملات التخويف والتهويل بسياسات الصندوق “الإفقارية” وما يمكن ان تسبّبه من ارتفاع في الأسعار وتراجع بالوظائف، وكأننا نعيش بنعيم الغنى واستقرار أسعار الخدمات والمواد الإستهلاكية ووفرة هائلة في فرص العمل.
التعامي عن الواقع المر، ومحاولة تغطية “فيل” الازمة اللبنانية “بقشة” الخوف على القطاع العام والطبقتين الفقيرة والمتوسطة الهزيلة، لا يعدو كونه دعاية يطلقها بعض المغرضين لأهداف غير اقتصادية ولغايات بعيدة كل البعد عن منطق الحرص على مستقبل لبنان.
تلك “الدعاية” تفعل في العقول ما تعجز عنه البراهين والإثباتات في منطق الأمور. لا عجب في ذلك، فقد كان لـ “النازية” أحد أعتى الأنظمة في العالم وأكثرها قسوة وزيراً مخصصاً للدعاية، مهمته إقناع الحلفاء قبل الخصوم. نقول ذلك لنقارب بين ما نعيشه اليوم من مآسٍ اقتصادية واجتماعية مجهولة الأفق وتخصيص مقدّرات الدولة لأفراد وجماعات، تمعن في إضعاف القطاع العام وتزيده وهناً، وما يمكن ان يفرض علينا من تدابير أقسى مما نعيشه أو يفرض علينا بقوة الامر الواقع.
الفساد… أصل البلاء
يختلط على الكثيرين ان ما أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم، لم تكن سياسات خارجية مغرضة ولا مؤامرة أجنبية، إنما استشراء للفساد من قبل سلطة وطبقة حاكمة، ما زال بعض الرافضين لتدخل محترف من قبل الجهات الدولية، يراهنون عليها عن قصد أو عن سذاجة، من أجل وضع الحلول والسير بها للخروج من الأزمة، وهذا مكمن الاستغراب.
فكيف يمكن الوثوق بهذه الطبقة التي عاثت فساداً واستدانت المليارات وأنفقتها على المحسوبين والمحسوبيات، ولم تستطع خلال سنوات طوال إصلاح قطاع الكهرباء الذي راكم أكثر من ثلث حجم الدين العام، للخروج من المأزق.
في الواقع ليس تجنب الجهات الدولية والتخويف منها، كائناً ما كانت تسميتها، سوى الحجة لاستمرار سياسة التقاسم والاستدانة على الوعود، من دون تنفيذ إصلاحات جدية سواء في الكهرباء او القطاع العام. وهذه السياسة الخبيثة ما هي إلا استمرار لأمرين: الاول مراكمة الثروات من تقاسم المغانم، والثاني حماية المحسوبين في الإدارات والمرافق الذين يُعتبرون وقود الانتخابات النيابية وضمانة استمرار تربع من يوظفهم على عرش السلطة.
المشورة أولاً
“هكذا تكون النتيجة عندما يجري الخلط بين السياسة والإقتصاد”، يقول النائب نقولا نحّاس، ويلفت إلى أن “صندوق النقد الدولي بوصفه جزءاً من المنظومة الدولية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية من أجل مساعدة الدول النامية والمتطورة على تخطّي أزماتها يملك صفتين أساسيتين، المشورة والمشاركة في الحلول”.
نحن في لبنان ما زلنا في أول المرحلة الأولى، أي طلب المشورة، لكن حتى مع طلب المشورة ومشاركة “الصندوق” في وضع الحلول فإن الامور تبقى رهن إقرار الخطة من قبل الحكومة والطبقة السياسية، خصوصاً ان هناك امكانية بعدم إقرار الخطة او حتى السير بها في حال أقرّت.
وبحسب نحاس فإن “من المهم ان نعرف بوضوح ماذا نطلب. ولذلك يجب التركيز في هذه المرحلة على كيفية الخروج من الازمة ومعالجة كافة المشاكل الاقتصادية والمالية والنقدية والضريبية وهيكلة الدولة من خلال خطة واضحة وتصور استراتيجي، ومن بعدها، في حال السير بالخطة، تأتي المرحلة الثانية أي المساعدة المادية وضخ الاموال الضرورية لمعاودة النشاط، سواء أتت عبر الصندوق او بواسطة غيره من الجهات الدولية، ومراقبة التطبيق ومتابعة الموضوع”.
الأموال أهم
المصرفي نيكولا شيخاني يعوّل على المرحلة الأولى “لأننا في لبنان لا نملك الخبرة المتراكمة عند الخبراء والأخصائيين في صندوق النقد الدولي والذين نجحوا منذ العام 1945 في التدخل لمعالجة مشاكل مشابهة لأزمتنا في أكثر من 35 دولة حول العالم”. ويوضح أن “أهمية المرحلة الأولى تتلخّص في ارسال الصندوق لفريق متخصص يطلع عن كثب على البيانات العائدة لمؤسسات الدولة ومن ضمنها المصرف المركزي الذي تغيب عن ارقامه الشفافية والتدقيق المحاسبي، ووزارة المالية والمصارف الخاصة وغيرها الكثير من المؤسسات التي ترتبط مباشرة بالازمة. تجميع هذه البيانات يسمح للصندوق بمعرفة الحالة الإقتصادية الحقيقية للبلد والتي على أساسها يقدم الإستشارة لكيفية إعادة هيكلة الدين، والطريقة الانجع التي تقلل قدر الإمكان الضرر عن الشعب اللبناني”.
الهروب إلى الإستشارة التقنية قد يكون مفيداً نظرياً لكن المهم فعلياً هو ضخّ المال، فالإقتصاد يحتاج من وجهة نظر شيخاني إلى حدود 50 مليار دولار. “فالبنوك بحاجة إلى مبلغ يتراوح بين 15 و20 ملياراً، فيما تتراوح التقديرات للمبلغ الذي يجب رصده لتخفيف ثقل الدين العام ما بين 30 إلى 35 مليار دولار”.
الحاجة الملحّة إذاً هي للنقود، وهذه المبالغ النقدية التي يجب أن تأتي من مصدر ما، لن تكون هبات، إنما كقروض ستعطى بناءً على ضمانات جدية وموثوقة ومكفولة من قبل فرقاء دوليين أبرزهم صندوق النقد، وإلا على اللبنانيين كما يقول المثل أن “يقبّعوا شوكهم بأيديهم”.