رغم التسليم بأهمية التعاون مع صندوق النقد والاستجابة لشروطه في ما يتعلق بالاصلاحات المالية المطلوبة، الا ان المذكرة او الخطة بشأن السياسات الاقتصادية والمالية التي تعتزم الحكومة محاكاة صندوق النقد من خلالها قوبلت بتحفظات كثيرة، لا سيما وانها تحدثت عن خسائر ولم تتحدث عن معالجات فعلية ووزعت الخسائر بطريقة غير عادلة.
قد لا يوضع في خانة المبالغة القول إن الحكومة في ورطة عبرت عنها الزيارة التي قام بها رئيسها نجيب ميقاتي الى عين التينة للتباحث مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، بشأن تسريع العمل على اقرار قانون الكابيتال كونترول في مجلس النواب ومشروع الموازنة لتكون تلك هي اولى الخطوات التي تعهدت بها الحكومة امام وفد صندوق النقد.
من وجهة نظر حكومية فان الامور تسير على خير ما يرام مع صندوق النقد وان ميقاتي وحين التقى بري اتفقا على اهمية التعاون مع الصندوق كباب من ابواب الخروج من المأزق الحكومي، وقالت ان بري يؤيد هذا التوجه ولو انه لم يوقع ورقة بعبدا المتعلقة بالالتزامات مع الصندوق من باب فصل السلطات. مصادر متابعة نقلت ان السفيرة الفرنسية وخلال زيارتها مؤخراً «حزب الله» فاتحته بموضوع التعاون مع صندوق النقد وقد وعدها بعدم الممانعة رغم التحفظات، وهي نقلت هذا الجو الى رئيس الحكومة الذي بدا مطمئناً الى سير الامور، وكان من المتوقع ان يزور نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي نيويورك لتقديم شرح وافٍ عن خطة الحكومة لصندوق النقد، الا ان الزيارة استعيض عنها باجتماع عبر تقنية زووم في الوقت الراهن.
وقوبلت الخطة وفق ما رشح عنها بتحفظ لم يلغ اعتبارها خطوة ايجابية لكن تبقى العبرة في التنفيذ. يَجزُم الوزير السابق منصور بطيش أنَّ «الورَقة التي تداولتها وسائل الإعلام بالأمس هي أقرب الى مجموعة عناوين فَضفاضة وتكرار لافكار مُتداولة. لكنَّ الاكيد أنَّها لا تَرقى إلى مُستوى التحدّيات الاقتصاديّة والماليّة والنَقديّة والاجتِماعيّة المَطروحة. هي مُحاولة تَسويق لدى صُندوق النقد الدَولي للقَول إنّ الحُكومة مستعدة للالتزام بمَجموعة تعَهُّدات. لكنَّ ذلك لا يُمكِن أن يُسمَّى خُطّة اقتِصاديّة مُتكامِلة». ويُحذّر من «استِمرار إخفاء الحَقائق عن الناس وتضليلهم بوعود وأوهام لا يُمكن ترجمتها». ويؤَكّد أنّ «كُلّ بَند مِن هذه الالتزامات يحتاج الى خطّة عَمل وآليات تطبيق لا تبدو ملامِحها في الأفكار المطروحة».
وفي معرض تعليقه على ورقة الحكومة التي نُشِرَت، يقول بطيش «يبدو جَليّاً محاولة شَطب ستين مليار دولار من خسائر مصرف لبنان البالغة لغاية الآن 72 ملياراً كانتْ مخفيّة لسنوات، وتُرجح الورقة المقدَّمة إمكانية زيادة هذا الرقم الكبير الذي يُضاف إلى الدَين العام الحُكومي المُسَجّل في وزارة الماليّة، والمُقَدَّر بنَحو 39 مليار دولار بالعملات الاجنبيّة وبقرابَة 100 ألف مليار ليرة بالعُملة الوطنيّة. لِذا، من الجُرم الاستمرار في سياسة النعامة او أقلَّه في الضبابيّة وغياب الشفافيّة. على الخُطّة المطروحة أن تُجيب على مَجموعة أسئلة في صلْب الإصلاح المَطلوب ومنها مَثلاً كيف ستُعيد الحكومة هيكلَة القِطاع المالي؟ على أيّ أسُس سوف تَعمَد إلى إصلاح النِظام الضريبي؟ مَن سيتَحمّل مسؤولية الخَسائر الناتجة عن شَطب مبلغ، أقلّه، 60 مليار دولار إضافة إلى خسارة اللبنانيّين مَبلغاً موازياً أو اكثر نتيجة انهيار سعر العُملة الوطنيّة. وهل يُعقَل أن يمرّ كُلّ ذلك من دون مُساءَلة او مُحاسبة؟
وَفق قراءته الاوَّليّة، يلاحظ بطيش «وكأنَّ هذه الورَقة (وهي لَيسَت خُطّة) هي محاولة إبراء للطَبقة أو المَنظومة التي تحَكَّمَت بمَصائِر الناس وبجَنى عمرهم لثلاثين سنة بالسياسة والاقتصاد والمال والنَقد، فكان النَهب المنظَّم لأموال الناس ومصادَرة حقوقهم البديهيّة».
ويسأل بطيش «كيف سَيَتمّ شَطب هذه الأموال بينما يدَّعي سياسيّون مِن كُلّ الاطياف حِرصهم على ودائع الناس؟ ما هذه التناقُضات؟ ألا يكفي كَذباً على الناس؟». وأسِف أنْ يستمِرّ اعتِماد الكلام الشَعبوي اللامسؤول في الاقتصاد خُصوصاً في هذه الفَترة العصيبة…».
يُثَمِّن بطيش «التعاطي مع صُندوق النَقد الدَولي الذي أبدى فَريقه حِرصاً على مصالح اللبنانيّين وحُقوقهم اكثر من العديد من القيّمين على الشَأن العام في لبنان. واعتبر أنَّ التعاون مع الصُندوق هو المَدخَل السليم للخُروج من الأزمة، لكنَّه يرى أنَّ مثل هذا التعاون «يبقى مَنقوصاً لِوجود ضَبابيّة في التعاطي من جِهة الحُكومة»، متَسائلاً: «هَل يُمكن الاكتفاء بحلولٍ تقَنيّة اقتِصاديّة مِن دون تفاهم اللبنانيّين بالحَدّ الأدنى على المشاكل المتناسِلة الغارِق فيها البلَد، ومِن دون حَدٍّ أدنى من التفاهُمات الوطنيَة أو المُساءَلة».
ويعتبر بطيش «أنَّ الخسائِر البالغة 60 مليار دولار التي ستُشطَب من أصل 72 مليار دولار خسائِر مَصرف لبنان، ليستْ وحدها الخسائر التي سيتحمَّلها الشعب اللبناني بلْ هو سيتحمَّل أكثَر من ستين مليار دولار غيرها، نتيجة فُقدان القيمة الشرائيّة لعُملته التي تبخَّرَت وبسبب تدنّي قيمة الأجور. لِذا، وقبل الحديث عن شطب 60 مليار دولار بشَفط مُعظمِها من جُيوب الناس، يجِب مصارحتُهم لكَي يعرفوا، بشكل عِلمي ولَيس بالبَهورات، أين صُرِفَت هذه المليارات التي استعمَلها مصرف لبنان خلافاً للأُصول ومِن دون وَجه حَقّ، وكَيف ستتَوَزَّع الخسائِر وعلى مَنْ، وكَيف يُمكن استِرداد بَعض مِن هذه الاموال وإنْ بعدَ حين، خاصّة وأنّه جرى إفقارُ شعبِنا بأكثَر من 60 مليار دولار أُخرى بعد أنْ أشبعَه المسؤولون – القيّمون على الماليّة العامّة وعلى النَقد، عَبر السنوات، كلاماً مَعسولاً كاذِباً عَن «الاستِقرار»، وهذا قِمّة الغِشّ والنِفاق.