Site icon IMLebanon

دروس وعِبر على طريق صندوق النقد… تجارب الأرجنتين وسريلانكا

 

المحاسبة شرط يوازي تنفيذ الإصلاحات لضمان عدم تكرار الأزمة

 

 

درس مجاني يمكن للمسؤولين اللبنانيين استقاؤه من تجربتي سريلانكا والأرجنتين الحديثتين. فاستسهال الاستقراض من صندوق النقد مع إهمال الإصلاحات البنيوية دائماً ما تكون نتائجه مدمرة. المليارات، سرعان ما «تتبخّر»، ولا يبقى إلا «ملح» شظف العيش يحرق أنفاس المواطنين. وفجأة، يجد البلد نفسه يدور في دوامة مفرغة من القروض المبنية على وعود بالإصلاح، ويصيبه ما أصاب الأرجنتين التي أبرمت مع «الصندوق» 22 اتفاقاً ولم تشفَ من داء الانهيار.

 

 

قبل يومين أعلنت سريلانكا تخلفها عن سداد ديونها الخارجية البالغة 51 مليار دولار، مفضّلة استخدام ما بقي من احتياطيات عملة صعبة لشراء الوقود والغذاء. المفارقة، أن سريلانكا كانت قد دخلت في حزيران 2016 في برنامج تمويلي مع صندوق النقد لمدة ثلاث سنوات، حصلت بموجبه على 1.5 مليار دولار. وقد تلقت في منتصف العام 2018 الدفعة الأخيرة المقدرة بـ252 مليون دولار لالتزامها تخفيف الدعم عن المحروقات، والوعد بإصلاح الكهرباء، وقطاع الطيران الذي فاق عجزه 2 مليار دولار؛ وهذا ما لم يحصل.

 

التجربة المرة

 

في المقابل صادق مجلس إدارة صندوق النقد الدولي أواخر آذار الفائت على برنامج مساعدة للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار، مع دفع ما يقارب 10 مليارات فوراً. مع العلم أن الأرجنتين كانت قد استحصلت من الصندوق في العام 2018 على قرض بقيمة 57 مليار دولار؛ عُدَّ وقتها واحداً من أكبر البرامج التمويلية المعطاة في تاريخ الصندوق. وقد أضيف القرض الضخم على إعادة هيكلة نحو 63 مليار دولار من الديون الخارجية. بيد أن عدم ترشيد الإنفاق العام، والفشل في ضبط موارد الدولة، وإهمال ملفات مكافحة الهدر والفساد والتضخم… عادت لتفشل ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية بعد عامين فقط، أي في العام 2020. ومع وصول مستويات الفقر إلى أرقام قياسية اليوم، واستمرار انهيار البيزو وارتفاع التضخم، والعجز عن خدمة الدين العام الهائل… عادت الأمور إلى نقطة الصفر.

 

المحاسبة أولاً

 

حظوظ تكرار سيناريو كلّ من الأرجنتين وسريلانكا في لبنان «كبيرة جداً»، برأي الخبير الاقتصادي جان طويلة. «ولا سيما في ظل استمرار النهج عينه للسلطة نفسها، التي لا تألو جهداً في الابتعاد عن تحمل المسؤولية والتهرب من المحاسبة». وبرأيه فإن «محاسبة من تسبّب بالأزمة، وما زال لغاية اللحظة «يصب زيت» حماية مصالحه الشخصية فوق «نارها»، لا تقل أهمية عن مسار الإصلاحات المرتبطة بصندوق النقد الدولي. ويجب قبل أي شيء آخر «حماية ظهر» الاقتصاد من خلال محاسبة المتورطين وإقصائهم عن التدخل في هذا المسار، منعاً لتكرار ارتكاب الجريمة نفسها بحق الوطن والمواطن. والمحاسبة من وجهة نظر طويلة «يجب أن تأخذ شكلين: الأول، سياسي من خلال صناديق الاقتراع في الانتخابات النيابية المقبلة. والثاني قضائي من خلال القوانين المالية (الإثراء غير المشروع، تبييض الأموال، التهرب الضريبي، استغلال المركز العام…). فمن غير المقبول تمرير خسارة هائلة مقدرة بـ73 مليار دولار من دون معرفة المتسببين بها ومحاسبتهم، سواء كانوا أفراداً أم مؤسسات أم جهات رسمية. وعلى دولة القانون والمؤسسات أن تفرض نفسها بواسطة قضاء منزّه وعادل يقوم بدوره على أكمل وجه في ملاحقة ومعاقبة كل من استفاد من دون وجه حق من جنى عمر المودعين. عندها يهون على المواطنين تحمّل ما تبقى من الخسائر لاطمئنانهم إلى أن الأزمة لن تتكرر، والمرتكبين لاقوا جزاءهم العادل. عدا ذلك فلا البلد ولا الاقتصاد يمكن أن يشهدا أي نوع من الاستقرار.

 

إنفصال عن الواقع

 

هذه المخاوف المشروعة تصطدم بحسب مصادر متابعة باستحالة تخطي لبنان الاتفاق المبدئي والانتقال إلى برنامج إنقاذي. فـ»ما يعرضه صندوق النقد الدولي على المسؤولين يشبه إلى حد ما إقناع طفل بالتوقف عن التهام السكاكر والحلويات مقابل إرضائه بحبة تمر». وهذا لن يرضوا به وسيفعلون المستحيل لتفشيله. والدليل الأبرز الاستنسابية في تطبيق الشروط، وأخذ ما يناسبهم منها كـ»الكابيتال كونترول»، واحتساب سعر الصرف على أساس منصة صيرفة في تحصيل الايرادات والرسوم، مقابل الضرب ببقية المطالب الأكثر إلحاحاً كإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والتوقف عن الاستقراض من مصرف لبنان، وإصلاح قطاع الطاقة عرض الحائط. فعلى الرغم من إفتاء هيئة التشريع والاستشارات بعدم صلاحية مجلس الوزراء إبرام عقد الاستقراض من مصرف لبنان، وتوصيتها إحالة الطلب على مجلس النواب، فتح المركزي اعتماداً للحكومة بقيمة 15.3 مليون دولار لاستيراد القمح وحل مشكلة الخبز لفترة تتراوح بين أسبوعين وثلاثة أسابيع، بانتظار أن يتم فتح اعتماد ثانٍ بمبلغ 21 مليون دولار. كما وافق مجلس الوزراء قبل أيام على الشروع في الخطوات المطلوبة لبناء معملَين لتوليد الكهرباء، في دير عمار والزهراني، وفق ما نصت عليه خطة الكهرباء. لاغياً بذلك دور الهيئة الناظمة للقطاع التي نصت عليها الخطة أيضاً، وأناطت بها هذه المسؤوليات. ومتناسياً أن مشكلة الكهرباء الكبرى تتمثل بهدر تفوق نسبته 50 في المئة وعجز فاضح عن تأمين الفيول. وعليه سيفاقم بناء المعامل بهذه الطريقة الديون والمشاكل ولن يحل أزمة الكهرباء. يضاف إلى هذه الفوضى محاولات تمرير قانون «كابيتال كونترول» مشوهاً ومستقلاً عن أي إجراء آخر، وموازنة بأسعار صرف متعددة كل همها اعتماد سعر منصة صيرفة لتحصيل الايرادات.

 

عدم الجهوزية السياسية

 

هذا العجز السياسي تجلى بأوضح صوره باختلاف النواب في اللجان المشتركة على مشروع قانون «الكابيتال كونترول» وترحيله للأسبوع المقبل»، برأي الخبير الاقتصادي د. لويس حبيقة. وهو ما يؤشر إلى عدم جهوزية لبنان للدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي؛ ولو كنا في أمس الحاجة إليه». فالمطالب لا تنال بِالتمنّي، إنما بالاقدام والعمل الجدي، وهذا ما يبدو «مستعصياً قبل الانتخابات النيابية لعدم استعداد النواب التصويت على قرارات غير شعبوية وخسارة أصوات المقترعين»، برأي حبيقة. و»من الصعب التوصل إلى تنفيذ الشروط حتى بعد الانتخابات، نظراً لتحويل الحكومة إلى تصريف أعمال ودخول البلد بعد فترة قصيرة استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية». وبحسب حبيقة فان «مذكرة التفاهم التي أبرمتها بعثة الصندوق مع الجانب اللبناني احتاطت لكل هذه المواضيع، مشترطة تنفيذ الدولة كل المطالب الإصلاحية قبل عرض الاتفاق على مجلس إدارة الصندوق والدخول في اتفاق تمويلي مع الجانب اللبناني».

 

«فترة السماح» التي يعيش بها لبنان حالياً قبل الانتخابات النيابية على حد وصف حبيقة، والتي أدت إلى توقيع اتفاق إطار مع الصندوق وعودة السفراء وتحمل الدائنين «لن تدوم طويلاً. وهي ستنتهي بعد شهرين مع انتهاء الانتخابات لتبدأ مرحلة البحث الجدي». لكن أهمية ما يجري من تحضيرات ونقاشات تتمثل من وجهة نظر حبيقة بـ»تحضير الأرضية للبناء عليها في المرحلة المقبلة سواء تغيرت الوجوه أم بقيت كما هي».