أعلنت هيئة التنسيق النيابية عن إضراب عام نهار الإثنين المقبل بهدف فرض ملف سلسلة الرتب والرواتب على جدول أعمال أول جلسة تشريعية للمجلس النيابي. وذهب محفوض إلى حد التهديد بالإضراب المفتوح في حال لم يتمّ إقرار السلسلة. فما هي التداعيات الاقتصادية لهذه الإضرابات؟
ليس بالجديد القول إنّ الطبقة الفقيرة في لبنان هي في ازدياد مُستمرّ كما تُثبته الأخبار الآتية من شمال لبنان، خصوصاً مع الهجرة غير الشرعية إلى البلدان الأوروبية عبر تركيا. هذا الإزدياد في عدد العائلات الفقيرة، يبقى النتيجة المباشرة لتردّي الأوضاع الاقتصادية كما والنزوح السوري الذي نافس اليد العاملة اللبنانية واستهلك البنية التحتية الخدماتية للبنان.
ولا نقول بجديد إذا ما أضفنا الشلل السياسي الحاصل في البلد والذي تطور إلى حالة مُرعبة مع توقف مجلس الوزراء عن الاجتماع، وبالتالي تمّ وقف كل القرارات التي تتعلق بالشق الاقتصادي والإجتماعي للمواطن كما والشق المالي للدولة اللبنانية. وما لا يُساعد في الأمر هو أنّ الوزير لا يملك الكثير من الصلاحيات مُنفرداً، وتبقى مُعظم القرارات ترتبط بشكل كبير بمجلس الوزراء.
وإذا كان عمل مجلس الوزراء قد شُلّ بفعل الوضع السياسي وبالتالي أصبحت الحكومة – فعلياً – حكومة تصريف أعمال، ليس بالإمكان تشكيل حكومة جديدة بغياب رئيس الجمهورية.
لذا، سيبقى الشلل مُسيطراً إلى حين تَقشّع الأجواء التي فرضها الطيران الروسي في سوريا. من كل ما تقدم، تراجع الوضع الاقتصادي إلى الحضيض وأصبح يُمكننا القول إنّ لبنان أفلسَ اقتصادياً واجتماعياً وإدارياً.
سلسلة الرتب والرواتب
إنّ مطالبة النقابات العمالية بإقرار سلسلة الرتب والرواتب مُحقة ولا نقاش في ذلك. وإذا لم يتمّ إقرارها سابقاً، فذلك يعود إلى عدم قدرة المالية العامة على تحمّل الكلفة خلافاً لكل الصيغ التي تمّ طرحها على طاولة مجلس النواب.
وهذا العجز في تمويل كلفة السلسلة، سببه العجز المُزمن في الموازنة والذي نتج عنه مديونية عامة عالية جداً بالمعايير الدولية. هذا العجز في الموازنة يأتي كنتيجة لغياب الإستثمارات، عدم الاستقرار السياسي، غياب الإصلاحات، الفساد المُستشري، والهدر في المرافئ العامة كالكهرباء.
نعم المالية العامة لم تكن قادرة على تحمّل الكلفة، واليوم أصبحت أكثر عجزاً عن تحمّلها. لذا نطرح سؤالاً جوهرياً: من أين يُمكن تمويل السلسلة؟
تقول هيئة التنسيق إنّ الكلفة انخفضت إلى النصف بحكم أنّ الدولة تدفع غلاء المعيشة، وبالتالي لم يبق إلّا تصحيح الأجور، لكنّ الواقع هو أنّ حتى نصف الكلفة مُستحيل في الظرف الحالي مع مستوى الدين العام الحالي.
ودفع السلسلة بالكامل من الكتلة النقدية (M2)، سيكون بمثابة انتحار مالي للدولة من ناحية أنّ المصارف هي التي ستموّل هذه الكلفة، وبالتالي ستتحوّل إلى دين عام إضافي يتهاوى معه التصنيف الإئتماني للبنان.
في الواقع الإمكانية الوحيدة لتمويل السلسلة هي عبر دفع قسم من المُستحقات (لن يتعدّى العشرين بالمئة) من الكتلة النقدية M2 والقسم الآخر على شكل سندات خزينة لصالح المواطنين بنفس الفوائد التي تُدفع للمصارف.
أضف إلى ذلك أنّ التضخّم الذي سينتج عن ضخّ كمية كبيرة من الكتلة النقدية M2 سيؤدي حتماً إلى تضخم بسبب زيادة الإستهلاك الذي لن تستفيد منه الماكينة الإنتاجية اللبنانية بحكم استيراد لبنان لقسم كبير من استهلاكه.
الإضراب سيدفع الاقتصاد إلى الهوة
إنّ الإضراب هو حق مُقدّس في الديموقراطيات، وهذا الأمر لا جدل فيه. ويبلغ حجم الثروة المُنتجة في لبنان 123 مليون دولار في اليوم الواحد. أي أنّ كل يوم إضراب سيُشكّل خسارة في الناتج المحلّي الإجمالي بنفس القيمة، وبالتالي سينعكس مسار النمو ليُصبح سلبياً. والآلية التي من خلالها يتمّ ضرب النمو هي التالية: إنّ الإضراب يعني وقف الإنتاج، وبالتالي سيقلّ المدخول الفردي ومعه الإستهلاك.
من جهة أخرى، فإنّ قلة الاستهلاك ستدفع العديد من الشركات إلى وقف استثماراتها (في حال وُجدت) وسيتمّ صرف عمّال لتخفيف الخسائر على الشركات في وقت بلغت فيه البطالة أرقاماً قياسية تخطّت الـ 30% من مُجمل اليد العاملة بفِعل النزوح السوري وتردّي الأوضاع الإقتصادية.
ما يعني أنّ العمودين الأساسيين للاقتصاد – أي الاستثمارات والاستهلاك – سيتمّ ضربهما بشكل أكبر بكثير من الأزمات السياسية والحراك المدني الذي شهدناه في الآونة الأخيرة.
وهذا الأمر إن حصل، سيدفع إلى تراجع سلبي في النمو قد يبلغ الـ 10% في حال كان هناك تصلّب من قبل النقابات العمالية. لكنّ احتمال حصول هذا السيناريو يبقى رهينة الوحدة النقابية التي تُسيطر عليها السياسة بشكل مُحكم.
محاربة الفساد
إنّ المطالبة بإقرار سلسلة الرتب والرواتب هي فعلاً في غير وقتها، خصوصاً مع كل ما تمّ ذكره من مشاكل، والأحرى بالنقابات العمالية المُطالبة بقوانين لمحاربة الفساد. فالفساد يُكلّف الدولة اللبنانية 10 مليار دولار سنوياً منها 5 مليارات خسارة مباشرة و5 مليارات على شكل غياب الفرَص الاقتصادية.
وهذا المبلغ يكفي ليس فقط لتأمين كلفة السلسلة، بل يسمح أيضاً بإنعاش الاقتصاد اللبناني عبر الاستثمارات التي يُمكن للدولة اللبنانية في هذه الحالة أن تقوم بها، خصوصاً في قطاع الكهرباء الذي يَستنزف مدخول الخزينة اللبنانية في صفقات فساد مُستشرية تتوزّع بين استيراد الفيول (القسم الأكبر من الفساد) والشق التشغيلي لمؤسسة كهرباء لبنان.
الوَعي مطلوب خلال هذه الفترة
إنّ الوضع الدقيق الذي تمرّ به المنطقة والشلل السياسي الذي يعصف بلبنان لا يسمح بهامش تحرّك كبير في الأمور المالية في لبنان. من هذا المُنطلق يتوجب على النقابات العمالية مواكبة هذا الواقع وعدم القيام بخطوات تصعيدية (كالإضراب المفتوح) لأنّ في ذلك ضرراً كبيراً سيفوق من دون أدنى شك كل الأضرار الناتجة عن باقي الأحداث.
كما أنه على الهيئات الاقتصادية تحمّل المسؤولية في ما يخصّ الإستثمارات، وذلك عبر زيادة قيمتها لأنّ الاستثمارات هي أكثر ما يحتاجه الاقتصاد اللبناني في هذه الظروف الصعبة.
كما على الهيئات الاقتصادية التوقف عن توظيف عمّال غير لبنانيين لأنها بذلك تقضي على نفسها بحكم أنّ العمّال الأجانب لا يُنفقون أموالهم في الماكينة الاقتصادية، وبالتالي فإنّ الأجور التي يأخذونها تخرج من إطار الإستهلاك ولا تعود بالفائدة على الشركات.
أمّا المطلوب من الأفرقاء السياسيين، فهو وَعي كبير وعدم وقف عمل الحكومة لأنها بذلك تعرقل العمل الاقتصادي والمالي للدولة اللبنانية، ما سيعود بشكل سلبي على المواطن بالدرجة الأولى وعلى الطبقة السياسية بالدرجة الثانية.