قبل أيام اندلعت مظاهرات في محافظة صلاح الدين لأن تنظيمات ميليشياوية لا تزال تسيطر فيها وعلى ديالي المجاورة وفي الأنبار ومحافظة نينوى أو الموصل. وقد سمى المحافظ ميليشيات منها «عصائب أهل الحق» و«النجباء» و«حزب الله العراقي». والسبب المباشر للمظاهرات قيام الميليشيات المنتمي بعضها إلى «الحشد الشعبي» الذي أقرته المرجعية الشيعية لقتال «داعش» عام 2015، بخطف بعض زعماء العشائر وقتلهم. والطريف أن المحتجين لم يتجرأوا على المطالبة بحل تلك الميليشيات، بل طالبوا بأن تذهب إلى الحدود العراقية – السورية، وأن يحل محلها الجيش والشرطة الاتحادية والأخرى المحلية! إن هذه الميليشيات يتقاضى عشرات الألوف منهم – وبخاصة «ميليشيا بدر» بزعامة هادي العامري الذي يرشح نفسه لرئاسة الحكومة لأنه فاز ثانياً في الانتخابات بعد حزب الصدر – مرتبات من الحكومة باعتبارهم من قطاعات الجيش. وكان البرلمان العراقي قد صوّت على ذلك في أواخر عام 2015. وكما هو واضح، فهم لا يكتفون بالمرتبات الرسمية، بل صاروا جزءاً من الإدارة شبه الشرعية للمحافظات السنية، ويمارسون الرشوة والابتزاز والترهيب والقتل إذا لم يُدفَعْ لهم ما يطلبونه على الدوام. وقد اشتهرت عام 2016 عملية قاموا بها بين الأنبار وصلاح الدين، عندما احتجزوا «صيادين» قَطَريين، نعم صيادين (!)، ولم يطلقوا سراحهم إلا بفدية اختلفت الروايات في مقاديرها حتى بلغت بحسب معلومات شبه رسمية المليار والخمسة عشر مليون دولار! ولذلك إذا كان السؤال الآن، كم ستؤثر العقوبات الأميركية اليوم وغداً على تمويل إيران لتلك الميليشيات؛ فإن الإجابة أن الميليشيات «المتأيرنة» هذه لن تتأثر، لأنها من سنوات هي والأحزاب الفاسدة الأخرى إنما تتقاضى مداخيلها من داخل العراق، سواء من الجيش، أو من سيطرتها على المحافظات السنية واختراقها لأجهزة الأمن وللإدارة. ويأمل الأميركيون والعرب الآن، أنه إذا بقي العبادي رئيساً للوزراء وتحالف مع تيار الصدر وتيار الحكمة وبعض الأحزاب السنية، فقد تتراجع السيطرة السياسية والأمنية لهذه الميليشيات، أما الفساد والابتزاز المالي للناس فإنه في الغالب لن يتراجع.
وما يقال عن العراق، يقال عن لبنان وأكثر. فقد بدأ حزب الله بإقامة دويلته في المناطق ذات الأكثرية الشيعية. لكنه بعد احتلال بيروت عام 2008 اخترق الدولة اللبنانية بالكامل، إذ سيطر على المطار والمرفأ ومخابرات الجيش، وتقاسم مع الجهات السياسية الأخرى الوزارات ذات المداخيل. ولو فرضنا أن الرقابة الشديدة على المصارف وانتقال وتحويل الأموال، سيحول دون مداخيل المخدرات وغسل الأموال؛ فإن رُبع إلى ثلث مداخيل الدولة اللبنانية بيده، وهو مع بعض التوفير والضبط يستطيع الاستغناء عن الفلوس الإيرانية المباشرة. لقد اشتهر أن الحزب تدفقت عليه الأموال الإيرانية المستمرة منذ عام 1982 بخاصة وبكثرةٍ في ثلاث مناسبات: بعد حرب عام 2006، وعند التدخل في سوريا، ثم في خطة وبرنامج دعم الحوثيين باليمن، وقد قيل إن الخبراء والعسكر الذين مضوا إلى اليمن من لبنان بالذات، إضافة إلى المساعدات الأخرى، إنما كانت تُصرف فيما بين عامي 2012 و2015 من مكتب المالكي رئيس وزراء العراق آنذاك، أما الآن فمعظم الإنفاق على الحوثيين يأتي من إيران. وخلال السنوات الخمس الماضية ما قلت قوات الحزب بسوريا عدداً عن عشرة آلاف، ووصلت أحياناً إلى عشرين ألفاً. إنما يقال إنها الآن في حدود الثمانية آلاف، وتنتشر على الحدود اللبنانية السورية وعمقاً حتى القصير وحمص وحلب، ثم على الحدود السورية – العراقية. ويقال إن إيران أنفقت ثلاثين مليار دولار في سوريا، منها ما بين ست مليارات وثماني مليارات على «حزب الله» ومعداته. فإذا كانت هذه الفترة قد شارفت على الانقضاء، وانكمش الحزب المتأيرن على الأرض اللبنانية متشبثاً بصواريخه من جهة، وبالسيطرة على إدارة الدولة اللبنانية إلى جانب الفاسدين الآخرين؛ فإنه لن يحتاج مزيداً من الأموال من إيران التي هي في ضيقٍ شديدٍ حتى قبل العقوبات الأميركية.
ولنذهب إلى سوريا. ففيها حصل الإنفاق الإيراني الأكبر. ولو تجاوزنا خط الائتمان المفتوح لنظام الأسد؛ فإن الإيرانيين كانوا وما زالوا ينفقون ولا شك على الميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية التي نظموها ودربوها وأرسلوها لمساعدة قوات الأسد. وهم الذين حفظوا النظام من السقوط حتى التدخل الروسي عام 2015. لا يزال هناك نحو الثلاثة آلاف من العراقيين، ونحو الـ15 ألفاً من الباكستانيين والأفغان، ونحو الخمسة آلاف من «الحرس الثوري». ولا يزال هناك خط ائتمان إيراني للنظام. وهنا قد تضطر إيران لسحب الميليشيات وربما بعض الحرس الثوري، وليس بسبب ضغوط الإنفاق فقط، بل وبسبب الضغوط الإسرائيلية والروسية. وكما هو واضح فإن الروس يحاولون إيجاد بدائل تمويلية للنظام السوري من طريق ملفي اللاجئين وإعادة الإعمار، ومن الأوروبيين والآخرين الذين هم على استعداد للمشاركة في التنفيس عن الأسد علناً أو سراً. إنما من ناحيةٍ أخرى لدى إيران استثمار هائل وطويل الأمد في «سوريا الأسد» ولن تتخلى عنه بسهولة، كما لم تتخلَ عن «حزب الله»، رغم ضخامة الإنفاق. لكنْ أيهم الأهم: الاستقرار بالداخل أم سوريا أم «حزب الله» أم فلسطين وتنظيماتها؟! هذه معادلةٌ صعبةٌ، لكن اختلالها لن يظهر إلا إذا طالت حقبة الضيق والعقوبات.
هتف المتظاهرون بإيران قبل شهورٍ والآن ضد فلسطين وحتى القدس، باعتبار أن سياسات تصدير الثورة والتحرير وحتى إنشاء «حزب الله»، كل ذلك مرتبط في الأصل بالصراع مع إسرائيل (!). وعند إيران بفلسطين منذ الثمانينات تنظيم «الجهاد الإسلامي»، ثم منذ النصف الثاني من التسعينات حركة «حماس»، وفصائل أخرى أصغر تشيعت بعد عام 2010. والواقع أن دعم إيران لهذه التنظيمات ما ارتبط أبداً بتحرير فلسطين، رغم الاحتشادات الضخمة في يوم القدس منذ أيام الخميني؛ بل ارتبط بالمماحكات مع الولايات المتحدة. ومنذ أيام كلينتون وإلى أوائل أيام ترمب، جربت إيران أنها كلما ساومت أميركا من خلال تهديد إسرائيل؛ فإن المساومة تنجح. ولذلك كانت حرب عام 2006، واستيلاء «حماس» على غزة عام 2007، وبعدهما انطلقت المفاوضات السرية ثم العلنية بين أميركا وإيران. وعندما كان تحرشٌ من «حماس» يثير حرباً صغيرةً أو كبيرةً على غزة؛ فإن ذلك كان يعني حدوث أزمة في المفاوضات على النووي! ثم بعد سوريا واليمن قال نصر الله مراراً غير مُبالٍ بكشف المستور: الحرب في سوريا أولى بكثير من مقاتلة إسرائيل، والحرب في اليمن أعلى درجةً بكثيرٍ جداً من أي نضالٍ آخر! فالتشيع ومضايقة العرب والسعودية على وجه الخصوص هما الأولويتان الدائمتان. والإيرانيون ونصر الله وربما «حماس»، كل هؤلاء يعرفون الآن أن التحرش بإسرائيل في زمن ترمب فيه هلاكٌ كبير. ولذا فالذي أراه أن إيران ستستمر بدعم التنظيمات الفلسطينية بالحد الأدنى، لكنها إن لم تُجنِ لن تنصح «حماساً» بالحرب إزعاجاً لأميركا وإسرائيل. لقد عرفتُ من فلسطينيي «حماس» و«الجهاد» بلبنان أنهم متضايقون جداً من الناحية المادية، وأن الإيرانيين يوصلون بالكاد مساعدات للتنظيمات المسلحة. ومن هنا تأتي المفاوضات غير المباشرة بين «حماس» وإسرائيل للتهدئة، وكذلك آمال المصريين أن تنجح محاولاتهم هذه المرة للتوفيق بين السلطة و«حماس».
لقد استثمرت إيران طويلاً في الاضطراب والتخريب في البلاد العربية شرقاً وغرباً. وما كان من هم الدوليين حتى بعد المأساة السورية، تحميل إيران المسؤولية عن أكثر هذا الخراب. فهل يتغير التفكير الاستراتيجي الإيراني، ليس تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية فقط؛ بل وبإعادة النظر في الفوائد المحققة بالفعل للجمهورية الإسلامية بعد قرابة الأربعين عاماً على قيام الثورة، وسياسات نشر الخراب في العالم العربي، وحتى في بلد فيه أكثرية شيعية مثل العراق؟!