ليست وسائل اعلام النظام السوري التي ذكرت ان القيادي في”حزب الله” سمير القنطار قتل “نتيجة قصف صاروخي ارهابي” (من دون ان تحدد الجهة وتاليا تركت الاحتمال مفتوحا على عمل من الداخل او من اسرائيل) أصدق إنباء من وسائل اعلام الحزب التي تحدثت عن غارة اسرائيلية استهدفت القنطار في جرمانا قرب دمشق. الا ان هذه الصياغة الرسمية السورية المتحفظة عن اتهام اسرائيل مباشرة، علما ان وسائل الاعلام السورية لا تضن باستخدام ذلك في كل مناسبة، القت ظلالا من الشك، لكون الطرف المعني واحدا وبمرجعية واحدة وانما بروايتين تحتملان التناقض وتؤديان الى استنتاجات او ابعاد مختلفة. فالعنصر اللافت في هذا السياق انه لم يحصل ان احرج النظام السوري قبل الحرب الاهلية ولا بعد اندلاعها في الكلام عن غارات اسرائيلية لا يمكنه الرد عليها، بما يعني ان لا حرج عليه راهنا بالكشف عن الغارة الاسرائيلية، انما الحرج هو في الاقرار بان سوريا باتت ساحة متفلتة لصراعات اقليمية ودولية مخابراتية وغير ذلك، ولا صلة له بها ولا سيطرة له عليها، وربما لا علم له ايضا بوجود القنطار او سواه. اذ هناك قياديون كثر من الحرس الثوري الايراني كما من “حزب الله” قتلوا في ادارتهم للحرب او انخراطهم فيها في سوريا، ولكل اسم رمزيته وفقا لموقعه واهميته، وليسوا عناصر منفصلة عن الانخراط الايراني في سوريا والاثمان التي تدفعها، كما الامر بالنسبة الى الحزب. انما تمايز القنطار التي تتمثل رمزيته بكونه أحد ابرز الاسرى في السجون الاسرائيلية، يكتسب بعدا أهم باستهدافه من اسرئيل وفقا لاعلام الحزب، ويعيد التذكير بان هذا الاخير لا يزال في حرب استخباراتية قائمة بينه وبين اسرائيل على رغم انخراطه في الحرب الداخلية السورية.
اغتيال اسرائيل القنطار يعيد الى الاذهان جملة نقاط قد تبدو شكلية في الظاهر، انما هي بالغة الابعاد من حيث مضمونها. إحداها أن اغتيال القنطار تم كما اغتيال القيادي في الحزب عماد مغنية في العاصمة السورية، ولو ان الاخير استهدف قبل اندلاع الحرب الاهلية وفي عز تمتع النظام السوري بجبروته، وبسيارة مفخخة. والمغزى ان دمشق اضحت المجال الارحب الذي انتقلت اليه اعمال الحزب، وايران معها وربما غرفة عملياتهما بحيث اصبحت المعارك الاستخباراتية تدور على نحو اكثر علنية فيها مما كان عليه الوضع في السابق، وهذا الامر ليس بقليل قياسا على بقاء بيروت هذه الساحة تحديدا واستخدامها لمدة طويلة بقوة للحرب الاستخباراتية الاقليمية والدولية، من دون ان يعني ذلك ان بيروت قوية او منضبطة او آمنة على نحو كاف راهناً، انما ثمة حاجة الى ابقائها بعيدة راهناً، شأنها في ذلك شأن منع انتقال الحروب المشتعلة في المنطقة اليها في ظل ساحات اخرى مفتوحة على صراعات وحروب بالوكالة تغني عن الحاجة الى العاصمة اللبنانية. لكن الرد من الجنوب ببضع قذائف صاروخية على اسرائيل، ولو رمزيا ومن دون الحد الذي يستدرج تصعيدا كبيرا، انما يحاول الا يلغي عن لبنان الصلة بين بيروت ودمشق على هذا الصعيد، اي وحدة الساحة ضد اسرائيل ورمزية القنطار كلبناني قيادي في “حزب الله”، كما كان لا يلغي احتمال تلقي لبنان ردودا عنيفة لو اصابت القذائف اشخاصا في اسرائيل.
والنقطة الثانية هي التجربة التي عاشها لبنان مع استباحته من اسرائيل في عمليات استهدفت قيادات فلسطينية عدة كانت تقيم في بيروت، وكانت تتحين الفرص لاقتناصهم معرضة أمن لبنان وسيادته لاشد المخاطر، حتى لو كان بعضها زمن الحرب الاهلية في لبنان. كانت العاصمة اللبنانية مستباحة يومئذ لسيطرة القوى الفلسطينية وتناميها القوي، عسكريا وسياسيا، وهو ما ادى لاحقا الى حرب اشعلت لبنان وجنوبه اكثر من مرة. وما ينسب الى تولي القنطار مهمة اعداد المقاومة في الجولان يماثل الى حد بعيد ما أعد للبنان على نحو ينذر بما تذهب اليه سوريا، إذا نجح وضعها على مسار الحل السياسي. الا ان ذلك يكفي للبناء على تجربة لبنان للتثبت من ان شراء الوقت الذي استطاعت روسيا القيام به في سوريا من خلال الدفع نحو اطار لحل سياسي سيمتد سنتين، لن يعيد سوريا الى ما كانت عليه او الى دولة متماسكة. وبعض المؤشرات من النوع الذي يكشف عنه وجود القنطار في دمشق والاسباب المعلنة لوجوده على الاقل، يشكل الدليل الابرز على ذلك.
ما يمكن ان يضيء عليه اغتيال القنطار بغارة اسرائيلية في دمشق هو أن اتفاق التنسيق الجوي بين روسيا واسرائيل اعطى ثماره على غير ما يصب في مصلحة الحزب الذي تجنب حتى الان كما تجنبت ايران التطرق الى اي من التقارير الرسمية التي تحدثت عن تنسيق الطلعات الجوية الروسية الاسرائيلية فوق سوريا، اذ كانت اعلنت وزارة الدفاع الروسية في 15 تشرين الاول الماضي انه تم اطلاق خط ساخن بين مركز ادارة الطيران في قاعدة حميميم السورية ومركز القيادة لسلاح الجو الاسرائيلي للابلاغ المتبادل عن طلعات الطائرات في اجواء سوريا. فلدى الحليف الروسي الذي تدخل لمنع انهيار النظام واحتفل ما يسمى بالمحور الممانع بتدخله العسكري، حسابات أخرى قد يذهب ضحيتها لاعبون آخرون على الطريق، خصوصا متى كان الهدف منع انهيار النظام وليس حماية حلفائه او تأمين غطاء لبناء قواعدهم.