تندرج اعادة هيكلة الحكومة السعودية في هذا التوقيت بالذات في سياق التغيير الكبير الحاصل في المملكة. بل يمكن اعتبار إعادة الهيكلة، التي شملت حقائب مهمّة عدة اضافة الى استبدال وزير النفط وتغيير تسمية الوزارة، بما يتفق مع ضرورات المرحلة، بمثابة تأكيد لبدء عملية اصلاح في العمق ذات أهداف بعيدة المدى. يأتي ذلك في اطار «رؤية المملكة العربية السعودية 2030» التي اعلنها الامير محمد بن سلمان وليّ وليّ العهد السعودي تحت مظلة الملك سلمان بن عبدالعزيز. تشير إعادة الهيكلة الحكومية بكل بساطة الى ضرورة أخذ موضوع هذه الرؤية بشكل جدّي.
جرت العادة في عالمنا العربي إطلاق خطط خمسية او عشرية طموحة. يبدأ التنفيذ وينتهي في يوم الاعلان عن تفاصيل الخطة. في الواقع لا تكون هذه الخطط في معظم الاحيان سوى ذرّ للرماد في العيون من اجل تقطيع الوقت ليس إلّا، وتوفير مسكّنات للمواطن العادي تغنيه عن التفكير الجدي في مستقبله ومستقبل عائلته ومستقبل البلد الذي يعيش فيه.
أظهرت عملية إعادة هيكلة الحكومة أنّ هناك نيّة في السير في «رؤية المملكة العربية السعودية 2030» الى النهاية وذلك وفق خطة مدروسة على كلّ الصعد، بما في ذلك الصعيد الاعلامي.
ليس صدفة أن يختار الامير محمد بن سلمان الإعلان عن «الرؤية» والظهور في الوقت ذاته مع الزميل تركي الدخيل على «العربية» في مقابلة طويلة تستهدف شرح أبعادها بكلام يفهمه الناس العاديون ويفهمون أيضاً الإطار العام الذي وضعت فيه. فالمواطن العادي لن يفهم، على سبيل المثال، لماذا من الضروري خصخصة نسبة صغيرة من شركة «آرامكو» العملاقة.
لذلك توجّب على وليّ وليّ العهد السعودي شرح «أنّ المخاطرة العالية كانت ستحدث لو لم نقدم على خطوة طرح آرامكو، وأنّ صندوق الاستثمارات لن يدير آرامكو وسيكون هناك مجلس ادارة لها». مضيفاً: «نحن نملك ثلاث نقاط قويّة لا ينافسنا فيها أحد، هي عمقنا العربي والإسلامي وقوّتنا الاستثمارية وموقعنا الجغرافي».
لم تعد الأمور تتمّ بالصدفة في السعودية. عندما يتقرّر شيء، هناك متابعة يومية له. هذا ما أظهرته الأيّام التي تلت الإعلان عن «رؤية 2030» في الخمس والعشرين من نيسان الماضي. لم يمض اسبوعان على ذلك، حتّى جاءت عملية هيكلة الحكومة كي تصبّ في خدمة تنفيذ «الرؤية» اعتماداً على ان الكلام وحده لا يكفي وان المقياس يتمثّل في ترجمة هذا الكلام الى أفعال. هذا ليس ممكناً إلّا في حال تولّى المسؤوليات شباب، يديرهم شاب، على تماس مع ما يدور في العالم وعلى اطلاع على آخر المستجدّات.
لا شكّ أن جهوداً جبارة بُذلت منذ نصف قرن وأكثر من أجل إقامة بنية تحتية في السعودية، لكنّ ذلك لا يغني عن التفكير في تطوير البنية واستكمالها في مرحلة هبوط أسعار النفط ومرحلة ما بعد النفط. هناك قبل كلّ شيء ضرورة لصيانة هذه البنية التحتية. هذه الصيانة تكلّف غالياً. كذلك، هناك ضرورة للتفكير في كيفية الاستفادة من الثروات الأخرى الضخمة التي تمتلكها المملكة وفي كيفية جعل الناس المقيمين على أرضها أناساً سعداء.
إلى جانب ذلك كلّه، لا يمكن تجاهل أن دول المنطقة تطوّرت واستطاعت أن تلعب أدواراً مختلفة في المجال السياحي والثقافي والإعلامي، وفي مجال السياحة. كيف يمكن أن تصبح المملكة بلداً سياحياً يقدّم الخدمات اللائقة لزوّاره؟ كيف اكتشاف المعالم الاثرية، التي هي كنوز بحدّ ذاتها والتنقيب عنها، خصوصاً أن الأمير محمّد بن سلمان لا يمتلك أي عقدة من أي نوع؟ يقول محمّد بن سلمان: «إنّ الترفيه والثقافة سيكونان رافداً مهمّاً جدًّا في تغيير مستوى معيشة السعودي خلال فترة قصيرة». مضيفاً: «معقول أنّك قبلة المسلمين وأهمّ بلد إسلامي ولا تمتلك متحفاً إسلامياً في المملكة العربية السعودية. هل هذا معقول؟ عندما يأتي زائر غير مسلم ويريد الاطلاع على الإسلام في السعودية، لا يوجد أي متحف أو مركز يستطيع إثراء ثقافته في الإسلام من خلال المملكة».
يبقى، بالطبع، أن الكلام الأهمّ الذي صدر عن محمّد بن سلمان هو ذلك المتعلّق بتاريخ المملكة: «لا شكّ أنّ التاريخ الإسلامي هو أهمّ مرتكز ومنطلق لنا، لكنْ عندنا عمق تاريخي ضخم يتقاطع مع الكثير من الحضارات». للمرّة الاولى هناك من يتحدّث عن هذا التقاطع.
في النهاية، هناك «رؤية» للسعودية حتّى السنة 2030. هناك أيضاً قرار بتنفيذ هذه الرؤية، وذلك عن طريق المتابعة وتغيير الظروف المعيشية للمواطن والمقيم، نحو الافضل، وذلك بجعل السعودية بلداً عصرياً تحلو الحياة فيه. هذه «الرؤية» تحتاج الى صيانة. ليس كافياً بناء أجمل وأضخم بناية في العالم، في حال لم تتوفّر الصيانة اليومية لها. كانت هناك في القاهرة، على سبيل المثال، أحياء من أجمل الأحياء في أجمل مدن العالم. صارت هذه الأحياء أقرب الى مزابل بسبب فقدان الصيانة.
كلّ شيء في هذا العالم يحتاج الى صيانة ومتابعة، بما في ذلك «رؤية المملكة العربية السعودية 2030».
بين ما تعنيه الصيانة والمتابعة التركيز أيضاً على التحديات التي تواجه المملكة، إن على الصعيد الداخلي او على الصعيدين الاقليمي والدولي. تبقى الاصلاحات الداخلية جزءاً من هذه الصيانة التي تقوم على جعل المواطن متعلّقًا بأرضه وببلده، بدل التفكير في كيفية الخروج منه لدى اقتراب عطلة نهاية الاسبوع او العطلات الاخرى الطويلة الأجل. صارت في الخليج مدن يحلو العيش فيها. هذه المدن مثل أبو ظبي أو دبي لا تبعد كثيراً عن المملكة.
يظلّ التحدي الأهمّ ذلك المتمثّل في المشروع التوسّعي الإيراني في ظلّ إدارة اميركية لا همّ لها سوى استرضاء إيران. لم يعد سرًّا ان المملكة العربية السعودية قرّرت المواجهة انطلاقاً من اليمن. تتمّ هذه المواجهة من دون خوف من المزايدات والشعارات والحملات المضلّلة التي تشنّها إيران مباشرة أو عبر أدواتها في لبنان والعراق وحتّى بواسطة اللوبي القوي الذي يدعمها في واشنطن دي. سي.
ما لم يعد سرًّا أيضاً أنّ الوضع الداخلي القوي جزء لا يتجزأ من المواجهة. من الواضح أنّ القرار القاضي بتعزيز هذا الوضع وتمتينه قد اتخذ. لذلك يقول الامير محمّد بن سلمان: «إنّ كلّ مشاريع البنية التحتية مستمرّة وقائمة ولن يتوقّف شيء». كذلك يتحدّث وليّ وليّ العهد عن المشكلات المطروحة بكل شفافية إن في مجال الإسكان او في شأن البطالة أو تطوير الاقتصاد وكيفية جعله «اقتصاداً أكبر».
تبدو إعادة هيكلة الحكومة ظاهرة صحّية فضلاً عن أنّها دليل على الجدّية في الذهاب بعيداً في عملية الصيانة مع ما يعنيه ذلك من إصرار على المتابعة. يمكن وصف ما حصل بأنّه رسالة الى السعوديين والمقيمين فحواها ان هناك جديداً في المملكة. إنّه أيضاً رسالة إلى الخارج فحواها أن للمملكة موقعاً ثابتاً في المنطقة والعالم غير مرتبط بالنفط وأسعاره، فعندما أسّس الملك عبدالعزيز المملكة «لم يكن هناك نفط» على حد تعبير محمّد بن سلمان.