يبدو أن مفاعيل المؤتمر الصحافي للرئيس سعد الحريري في السراي الحكومي لإحتواء «الغضب السني» على «عدوان» الوزير جبران باسيل على صلاحيات رئاسة الحكومة وعلى المواقع السنية.. قد إنتهت بإجتماع الخمس ساعات بين الحريري وباسيل، ليعود رئيس حكومتنا إلى الغياب، ويستأنف جبران وسراياه السياسية الهجوم بطائفية أكثر جلافة، مستدرجين معهم البطريرك الماروني مار بشارة الراعي إلى أتون التسعير حول الحق في التوظيف، ليطلق موقفاً شديد الخطورة يتمثل في طلب المناصفة في كل الوظائف، وليس فقط وظائف الدرجة الأولى كما ينص الدستور.
التيار الأكثر طائفية!
حملة باسيل والسرايا التابعة له جاءت على محاور عدة، قادها هو شخصياً من بعلبك حيث تعرّض لأحد أعنف الإنتقادات المباشرة، وسانده النائب حكمت ديب الذي فتح النار على مجلس الخدمة المدنية موجهاً له الإتهام بالفساد لتبرير عدم توقيع مراسيم الناجحين في مبارياته، في إطار المراكمة لمسار الإنقلاب على الدستور بمزيدٍ من الأوراق المكشوفة.
لا تقتصر الإشكالية على حراس الأحراج، بل تشمل المياه والطيران المدني والمالية، ومعها يجري سحق حقوق هؤلاء الفائزين المستحقين للإلتحاق بمواقعهم، وهذا ما دفع بالمتضرّرين إلى ملاقاة باسيل في «واقعة» بعلبك حيث أسمعوه كلاماً من الطراز الذي يساوي طبيعة سلوكياته، ويمكن إختصاره بقول السيدة البعلبكية: «بعدك بتحكي بالإنفتاح وأنتم أكبر تيار طائفي».
رفض باسيل أي تلطيفٍ للأجواء من مساعديه وخلع القفازات بعد أن حاول التجاهل وإدعاء عدم المسؤولية عن هذه الملفات، وبعد إصرار أصحاب القضية المحرومين من حقوقهم، قال بوضوح تام: من لا يستطيع تحمّل بقاء لبنان بلداً متنوعاً وسنحتفظ على المسيحيين فيه، فله أن لا يتحمل»
وإذ زعم باسيل أنه يواجه كل العالم من أجل شريكه في هذا الوطن، قال إن على شريكه أن يقف معه ليبقى هو في هذا الوطن.
الشراكة المشوّهة
يرفع باسيل شعار الشراكة ليفرض مفهومه الخاص المشوّه، وليكون مدخلاً لضرب الشراكة والعيش المشترك، ولا ندري من يواجه باسيل من أجل اللبنانيين المسلمين: هل يواجه حلفاءه الإيرانيين ومحورهم من أجل أهل السنة، وهذا غير صحيح، أم يواجه الغرب الأميركي والأوروبي، وهو بذلك يعني في خطابه «حزب الله» تحديداً ، وهو يتحدث في بعلبك إحدى معاقل الحزب الكبرى، وعندها يصبح كلامه تصفية حساباتٍ بين حليفين يتناقضان في كل شيء تقريباً ويتفقان على تقويض الدولة.
الشراكة عند باسيل تعني إقتسام البلد مناصفة بينه من جهة، وبين جميع الآخرين، مسلمين ومسيحيين.
هذه هي المعادلة عند باسيل، وقد أعلن بكل وضوح أن كل الوظائف في الدولة ستخضع للمناصفة، وذلك خلافاً للدستور الذي حصر المناصفة في وظائف الدرجة الأولى، مما يعني تعطيل وظيفة مجلس الخدمة المدنية وضرب القاعدة المعتمدة في الدولة للتوظيف، وفرْضَ قسمة غير عادلة على اللبنانيين، تقضي بأن يستولي 25% من اللبنانيين على 50% من الوظائف والمواقع في الدولة، ثم تـُحصر هذه الحصة بجبران باسيل مع تهميش بقية الأحزاب والقوى المسيحية.
إستهداف مجلس الخدمة المدنية
وإمعاناً في التبرير لهذه السياسة العنصرية، فتح النائب حكمت ديب النار على مجلس الخدمة المدنية فقال: إن عملية الإصلاح يجب أن تشمل هذا المجلس لأن فيه عيوباً كبيرة، فالعلاج واجب لأن هناك أشخاصاً نجحوا في الخدمة المدنية لا يستحقون النجاح.
بهذا الموقف ينصّب ديب نفسه مختصاً للحكم على كفاءة وشفافية مجلس الخدمة المدنية، الذي تعود رئاسته لسيدة من أهل السنة القاضية فاطمة الصايغ (مصادفة عفوية طبعاً)، في تمهيدٍ لإدخال المجلس في دوامة الإبتزاز والمساومات.
أين رئيس الحكومة؟!
حاول الرئيس سعد الحريري في مؤتمره الصحافي الأخير طمأنة اللبنانيين إلى صلابة موقفه وإلى رفضه وتصديه لأي إنتهاكٍ للدستور ولصلاحياته الرئاسية. لكننا وجدناه يجتمع خمس ساعاتٍ مع باسيل الذي خرج ليؤكد وجود إتفاقٍ على التعيينات ويستأنف سلوكه الطائفي المستفز، وشاهده اللبنانيون يشتبك مع زعيم الحزب الإشتراكي وليد جنبلاط، بينما يتفرّغ باسيل لإلتهام المواقع والحصص الإدارية والقضائية والأمنية.
لا يمكن وصف ما يفعله جبران باسيل بأقلّ من إنقلابٍ على الدستور، من خلال كسره في قضية المناصفة، وهي من القواعد الأساسية التي يقوم عليها إتفاق الطائف ودستور لبنان.. فأين رئيس الحكومة من هذا الإنقلاب؟!
يشعر المسلمون في الدولة أنهم مكشوفو الظهر ومتروكون نهب السياسات العنصرية لجبران باسيل، ويشعر عموم المسلمين وسائر اللبنانيين أن مؤتمر الحريري في السراي لم يكن أكثر من حبة مهدئ سرعان ما إنتهى مفعولها، فعاد هو إلى الغياب وإستكمل جبران مسيرته في الطغيان.
إن ما يجري لم يعد مجرّد شطحاتٍ طائفية مستفزة، ولا طموحاً رئاسياً مبكراً، بل إننا أمام كسرٍ لعنق الدستور وفرض تحوّل سياسي شديد الخطورة، تنبـّه له وليد جنبلاط مبكراً، وبات أركان التسوية أمام إمتحانٍ وجوديّ لوقفه والحفاظ على الكيان، وإلا سيعلن معظم اللبنانيين أنهم سيحضرون آلاتهم الحاسبة ليستأنفوا العدّ بعد أن كان قد أوقفه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومعه لن يبقى للمناصفة أثر لأن المثالثة هي التي ستكون سيدة المشهد وعلى حساب المسيحيين دون سواهم.