IMLebanon

استحالة القضاء على الإرهاب مع بقاء الأسد

لم يكن العالم بحاجة إلى مشاهدة ما تسببت به المجزرة الكيماوية الأخيرة في مدينة خان شيخون، ليرتفع صوته ضد بشار الأسد والمطالبة بعدم بقائه في السلطة في أي تسوية سياسية. فالمجزرة لم تكن الأولى في تاريخ القصف الكيماوي، ولن تكون الأخيرة. يُتوقع أن تهدأ الضجة بعد قليل، ويُستعاد الكلام عن التسوية السياسية المستحيلة من قبل النظام ورعاته الروس والإيرانيين.

يستدعي الموقف الأميركي من مقولة محاربة الإرهاب والنظرة إلى الرئيس السوري بعض التوضيحات. صحيح أن الرئيس دونالد ترامب ارتفع صوته خلال الأيام القليلة معلناً عن تغيير نظرته إلى الأسد ومعها السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية، وترجم ذلك بشن غارة على أحد مطارات سورية. لكن ادعى ترامب، قبل المجزرة، بأنه لا يريد تكرار سياسة أوباما التي كانت تقوم في أحد ميادينها على إزالة الأسد. هذا ليس صحيحاً مطلقاً. فالسياسة الأميركية قامت ولا تزال منذ اندلاع الأزمة السورية على إدارة حرب أهلية الهدف منها تدمير الكيان السوري، جيشاً ونسيجاً اجتماعياً وموقعاً مركزياً. أدركت الإدارة الأميركية أن نجاح الانتفاضة في إزاحة النظام الحالي قد تؤدي إلى قيام نظام وطني ينهي ما درج عليه حكم البعث من نسج علاقة فعلية للنظام السوري مع إسرائيل، جوهرها تسخير الجيش السوري وتحويله إلى حرس حدود للدولة العبرية. وهو موقف التزمه هذا النظام منذ العام 1973 حتى اليوم. ومن أجل نجاح الحرب الأهلية هذه وتحقيق أهدافها، كان لا بد من الوقوف بقوة في وجه إنهاء حكم الأسد، لأن بقاءه يوفر للحرب استمراراً كما هو حاصل حتى اليوم.

من المستغرب أن مقولة محاربة الإرهاب أميركياً وحتى عالمياً، لا تزال تنطلق من تعيين «داعش» مصدراً له. يتجاهل الأميركيون والغرب كيف نشأ «داعش» ومن رعاه ومكنه من الاستيلاء على الأراضي، سواء في تدمر أو في الرقة، ومن هدد بتحويل العالم إلى ساحة إرهاب عند استفحال الأزمة، وكيف نجح هذا النظام في انفلات الوحش الإرهابي من عقاله، وعدم سيطرته نفسه على الوليد المسخ الذي خلقه. إن عودة ترامب إلى تعيين داعش العدو المفترض محاربته، وتجاهل الأصل في خلق داعش هو تشويه لحقائق الأزمة السورية ولطبيعة الإرهاب الذي ولدته، وتعمية لحقيقة دور الأسد في استدامة داعش وانتشارها. في هذا المجال يجب قراءة الغارة الأخيرة في حدودها. لها وظيفة داخلية أميركية، كانت دقيقة بحيث تجنبت إصابة جنود روس. لكن الأهم ما رافقها من تصريح أميركي بأنها لا تقع في خانة إسقاط الأسد، بل هي رد مباشر على القصف الكيماوي.

لا يقتصر الإرهاب الحالي على التنظيمات المتطرفة من قبيل «داعش» وأخواته، بل يطاول ما يجري على الأرض السورية من أعمال ستؤسس لإرهاب مستدام خلال السنوات المقبلة، وبعد انتهاء الأزمة إذا ما قُيّد لها أن تنتهي. يُشار في هذا المجال إلى الفرز الديموغرافي الجاري على قدم وساق لإحلال مجموعات طائفية ومذهبية مكان أخرى، أو لنقل السكان من مناطق محددة وتوطين آخرين مكانهم، وذلك من قبيل ما يخطط له من نقل سكان من الزبداني والفوعة. هذا التوطين الجديد يصعب أن يؤسس مستقبلاً لحالة من الانفراج والتعايش السلمي بين السوريين. يجري فرز السكان على أساس مذهبي، وتغليب أقليات طائفية مستجدة على أغلبيات قائمة. إن مثل هذا الفرز سيؤدي إلى التأسيس لحروب أهلية مستقبلاً. فالواقع السوري الخاضع عملياً اليوم إلى استعمار مزدوج روسي وإيراني يجعل من عمليات الفرز هذه واقعاً على الأرض. فالنظامان متفقان في هذا الجانب، وإن بدت بعض التعارضات في جوانب أخرى.

قد تستمر موجة الاستنكار لفترة من الزمن، ترصد خلالها القوى المتدخلة في سورية ما سيخرج به الموقف الأميركي من عمليات أخرى بعد الغارة. من المفيد التعلم من التجربة ومن ذبذبات السياسة الأميركية. فبعد أن تبرد الموجة، ستدخل حسابات أخرى. فالتدخل الأميركي العسكري في شكل واسع لإسقاط الأسد سيواجه بموقف حازم من روسيا المتمسكة إلى النهاية، وبأي شكل ببقاء الأسد. كما سيصطدم بالموقف الإيراني الأكثر تشدداً ببقاء الأسد في وصفه ضمانة النفوذ الإيراني في سورية. لا أحد يأخذ في الاعتبار مواقف العالم الآخر، ولا واقع المعارضة السورية في الداخل. ما سنسمعه سيظل يدور في إطار الموقف المعنوي والكلامي.

إن النظرة التشاؤمية من واقع الأزمة السورية وما هو مطروح لها، يظل مصدره أن العالم لا يزال يقف أمام حدين: يريد محاربة الإرهاب، لكنه لا يستسيغ ذهاب الأسد تحت وهم أنه بطل محاربة الإرهاب. إن الخلاص من هذه المعادلة قد يمهد فعلاً لحرب حقيقية ضد «داعش» وأخواته.