IMLebanon

التسوية المستحيلة

 

بعد سبعة أشهر على الانتخابات التشريعية التي جرت في شهر مايو (أيار) الفائت، لم يتمكن الرئيس المكلف سعد الحريري من تشكيل الحكومة العتيدة. واللافت أنه رغم الخلافات المستحكمة التي تعوق عملية التشكيل، يجمع القادة والزعماء السياسيون على أمر واحد هو الحاجة الملحة إليها، باعتبارها الترياق الذي يحتاجه اللبنانيون لحل مشاكلهم كافة في السياسة والاقتصاد والاجتماع.

لا شك أن الحكومة هي العمود الفقري للدولة ولا تستقيم شؤون البلاد من دونها. إنما هذا التجاذب الحاد وغير المسبوق الذي تشهده الحياة السياسية في لبنان وطبيعة الخلافات التي تمزق جسمه السياسي، يبعثان على الاعتقاد بأنه لو قدر للحكومة المتعذر تشكيلها أن تبصر النور، لن تقدم ما يروج له الساسة وما يتوقعه ويتوق إليه اللبنانيون. هل هذا الكلام السلبي والمتشائم في محله؟

طبعاً في السياسة ليس هناك أسود أو أبيض، فهي ليست جامدة بل في دينامية وحراك مستمر، إنما الانسداد الذي وصلت إليه الأزمة في لبنان يوحي بأن المساحة المتاحة للتسوية باتت ضيقة جداً إن لم تكن معدومة.

المقصود بالتسوية ليس تسوية على غرار التسويات التي جرت بين تيار المستقبل بزعامة الرئيس سعد الحريري والتيار الوطني الحر بزعامة الرئيس ميشال عون، وقبلها بين التيار عينه والقوات اللبنانية بقيادة الدكتور سمير جعجع. المقصود بالتسوية في هذا السياق هو تسوية الأزمة اللبنانية برمتها، وهي في الواقع حرب أهلية انتهت عسكريا عام 1989، إنما بقيت مستترة تستعمل فيها كل أشكال الأسلحة إلا السلاح التقليدي، باستثناء مسلسل الاغتيالات الذي طال نخبة من السياسيين والصحافيين والناشطين وبدأ باغتيال الرئيس رفيق الحريري، فضلاً عن عملية 7 مايو 2008 التي اجتاح خلالها حزب الله بقوة السلاح العاصمة بيروت وبعض مناطق الجبل.

شهدت الحياة السياسية في لبنان أزمات عدة أبرزها أحداث 1958 في نهاية عهد الرئيس كميل شمعون، على وقع الوحدة بين مصر وسوريا وتداعياتها على الداخل اللبناني، وكذلك في العام 1969 مع توقيع اتفاقية القاهرة بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، وما تلاها من صدامات بين المنظمات الفلسطينية المسلحة وحلفائها في الداخل والأحزاب المسيحية اللبنانية، أدت إلى انفجار الحرب في العام 1975 ودخول قوات الردع العربية بغالبية وهيمنة سورية وغطاء عربي أمنته قمتا الرياض والقاهرة في العام 1976.

أريقت في خلال هذه الحوادث والحروب والأزمات الدماء، وشهدت عنفاً حاداً جرى على أيدي اللبنانيين، وحفزته أيضا خلافات بين دول عربية أفادت من الشقوق الكبيرة داخل الجسم اللبناني لتصفية حساباتها. إنما وبعد مخاض عسير، حصلت تسوية الطائف في العام 1990 جراء تفاهم إقليمي وداخلي وتوقف القتال.

الغاية من هذا السرد التاريخي هو القول إن الخلافات والنزاعات وحتى الحروب كانت تسوى على مستويين محلي وإقليمي – دولي. على المستوى الداخلي، كانت زعامات مثل كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون إده في الجانب المسيحي وصائب سلام ورشيد كرامي وكمال جنبلاط في الجانب الإسلامي، قادرة على التوصل فيما بينها إلى جوامع مشتركة رغم كل التباينات. كذلك على مستوى الإقليم، كانت قيادات عربية حكيمة قادرة دوماً على ترميم الجسور في إطار الخلافات الإقليمية، على غرار التفاهم السعودي السوري المصري، الذي أدى إلى اتفاق الطائف. إنما اليوم وبفعل دخول العامل الإيراني إلى الداخل اللبناني منذ الاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان عام 1982 ليتمدد بعدها إلى الإقليم برمته بتسهيل من النظام السوري، وبسبب الزلازل التي عصفت بالمنطقة، باتت المقاربة مختلفة وباتت فرص التفاهم بين الأفرقاء اللبنانيين كما فرص التفاهم على المستوى الإقليمي أكثر صعوبة إن لم تكن شبه مستحيلة، وظهرت الحاجة إلى إيجاد آلية للتسويات والحلول من خارج العلبة.

للأسف، منذ نشوء الجمهورية اللبنانية مارس ساستها، ما عدا قلة نادرة منهم، ما بات يعرف لاحقاً «بالشطارة اللبنانية»، أي استقواء طرف داخلي بطرف خارجي، معتقداً أن باستطاعته الانتفاع منه لمصالح آنية ومن ثم التخلص منه. حصل ذلك في العام 1969 عندما أصر الطرف الإسلامي على المضي باتفاق القاهرة مع المنظمات الفلسطينية، وعام 1976 عندما رحب الطرف المسيحي بدخول الجيش السوري لتقييد الوجود الفدائي الفلسطيني في لبنان، وعام 1982 عندما استعان الطرف نفسه بإسرائيل ضد الوجودين الفلسطيني والسوري معا، وتكرر الأمر نفسه مع تأسيس حزب الله مطلع ثمانينات القرن الماضي كجزء من جهد إيراني للتغلغل في المنطقة. في جميع هذه الحالات، برزت «الشطارة» ذاتها أو الانتهازية والنفعية والرغبة في الإفادة السريعة والركض وراء السلطة على حساب مصلحة الوطن.

إن ما يوصف اليوم بعقدة «النواب السنة» في لبنان والتي تقف عائقاً أمام تشكيل الحكومة ليست أكثر من تورية لوقائع كثيرة، أبرزها قدرة حزب الله وإيران على «الإشهار» بنيتهما الإمساك بمفاصل السلطة في البلاد. هذا الهدف عمره أكثر من 30 سنة، وعبرت عنه جميع الأحداث التي شهدها لبنان خلالها، وتوجت أخيراً بالتسوية التي أدت إلى انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية وقانون الانتخاب ونتائجه، وما الانسداد الحالي سوى نتيجة طبيعية لهذا المسار. فبعد الإمساك برئاسة الجمهورية وبعدها بالسلطة التشريعية، من الطبيعي أن يسعى حزب الله إلى الهيمنة على السلطة التنفيذية، ليكتمل بذلك الانقلاب على الكيان اللبناني كما عرفناه.

فهل من مساحة لتسوية جدية قابلة للعيش؟

هل من تسوية لموضوع سلاح حزب الله؟ أم لامتداداته الخارجية وتدخلاته السياسية والعسكرية في أكثر من مكان؟ أم من موقفه من النظام السوري والعلاقات التي يصبو إليها معه؟ أم من الأحكام التي ستصدر عن المحكمة الدولية؟ أم للقضايا المعيشية التي دخلت نفق التعطيل جراء التجاذب الحاد والمأزوم على القضايا السياسية والأمنية؟

من يرصد اتجاه التأزم السياسي اللبناني يخلص إلى قناعة أنه حصيلة خطة محكمة ومتدرجة هدفها المحوري إمساك حزب الله بعنق السلطة، ليشدد خناقه ترهيباً حيناً ويرخيه تسهيلاً طوراً، وفي الحالتين لغايات مذهبية ولأغراض ترمي إلى تغليب الكفة الإيرانية في ميزان القوى بالعالمين الإسلامي والعربي.

الأزمة في لبنان تتعدى ظاهر الأمور لتصل إلى رغبة طرف يستقوي بالسلاح، رغبة لم تعد مبيتة بإعادة النظر في الكيان والدولة والشرعية الميثاقية، بحيث، وفي صريح القول، أضحت الديمقراطية البرلمانية اللبنانية مجرد واجهة لاستقواء طائفي مذهبي، عوض أن تكون عملية توسيع المشاركة الوطنية وباتت عاجزة عن مواجهة مخطط تعديل قسري للتركيبة القائمة على نحو يطيح بالميثاقية التي هي روح الاستقلال والمدماك الأساسي لشرعية الكيان، وهنا بيت القصيد في المشكلة اللبنانية.