حدود نبرات التّصعيد والتّهديد بالمواجهة هي في إدراك كلّ اللاعبين أن لا منتصر في الحروب الدائرة أو المحتملة في الشرق الأوسط. لا الولايات المتّحدة ولا روسيا ولا تركيا ولا إسرائيل ولا إيران والتنظيمات التابعة لها قادرة على الانتصار في أيّ من حروبها. لذلك ما هو آتٍ الى المنطقة لن يتجسَّد في مغامرات التورّط العسكري المباشر، مثلاً ما بين الولايات المتّحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية. بل الأرجح أن يأخذ شكل إجراءات أميركيّة لزعزعة الاستقرار والإركاع الاقتصادي لإيران وتنظيماتها، وقطع الطريق عليها عسكرياً في أماكن توغّلها خارج حدودها إذا برزت الحاجة. فإدارة ترامب أوضحت تماماً أنّها تتربَّص لطهران في ساحتها الداخلية ولمشاريعها الإقليمية، وأن لا مانع لديها من تمزيق الاتفاق النووي معها إذا وفَّرت طهران لها الذريعة. إنّما هذه هي حدود المواجهة الأميركية – الإيرانية. الولايات المتّحدة لن تخوض حرباً عسكريّة ضد إيران، لكنها قرَّرت تجنيد قدراتها لحروب اقتصادية تُساهم في زعزعة النظام الحاكم في طهران. نائب قائد «الحرس الثوري» الإيراني، الجنرال حسين سلامي، أعلن أنّ إيران «أجرت تقويماً لكلّ نقاط القوّة والضعف لدى جبهة الاستكبار»، وقال: «نحن على اطّلاع كامل على كلّ القدرات الجوية والبحريّة الأميركية المحيطة بإيران، ونَعتبر أنّ خيار الحرب واقعي ونستعدّ له». صعَّد ضدّ واشنطن بحديثه عن «نسبة الدّقة في الصواريخ الباليستية» الإيرانية لاستهداف القطع البحرية والأساطيل الاميركية «في شكلٍ دقيق ومُحكم، إذا اقتربَت طائراتها من تنفيذ عملٍ عسكري»، وزاد وتيرة التّحدي بكلامه عن «امتلاكنا استراتيجيّة الهجوم ويُمكننا توجيه ضربات مكثّفة لكلّ قواعد الأعداء، كما يُمكننا مواجهتهم في البحر». لغة المكابرة هذه رداً على الاستكبار إنّما تحمل في طيّاتها ضعفاً بنيوياً له نكهة القلق. ذلك أنّ «الحرس الثوري» يُدرك أنّه ليس قادراً على الانتصار في حرب مع الولايات المتّحدة مهما زعم عكس ذلك. قلقه الحقيقي هو من القدرات الأميركية على زعزعة النظام الحاكم الذي يُشكّل «الحرس الثوري» جزءاً أساسياً منه.
لهذا، حرص الجنرال سلامي على المبالغة في حديثه عن «المدن الصاروخية للحرس الثوري»، وهي «كثيرة جداً كما أنّها لا تحوي كل صواريخنا». حرص أيضاً على الاستفزاز الأوسع، معتبراً أنّ الجيشين السوري والعراقي يُشكّلان «عمقاً استراتيجياً» لطهران بالذات في سياستها لـ»الاشتباك مع العدو»، معلناً أنّه «ليس منطقياً أن يحصر أيّ بلد نطاق أمنه داخل حدوده». واشنطن سمِعت المبالغات وحسَّت تسارع نبضات القلب في أركان «الحرس الثوري» بكثير من الارتياح – فهذا جزء من استراتيجيّتها.
كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن أنّ وجود إسرائيل في المنطقة يتصدَّى لنفوذ إيران و»داعش» لأنّه «هو العامل الرئيسي في الشرق الأوسط الذي يَمنع انتشار الإسلام الراديكالي الذي تقوده إيران وتنظيم الدولة الاسلامية»، إنّما هو كلام استهلاكي بامتياز. نتنياهو تحدّث عن هذه «الميزة» الإسرائيلية، فيما كان يتراجع عن نبرة التهديد بوقوع حروب مع «حزب الله» في لبنان أو في سوريا في الجبهة الشمالية ومع «حماس» في قطاع غزة في الجبهة الجنوبية. إنّه يَعي تماماً أنّه لن يكون منتصراً في هذه الحروب ولا مصلحة له في خوضها مباشرة، لذلك يُناور وهو يُبرم الصفقات بالذات مع الولايات المتّحدة وروسيا.
روسيا تسرَّعت في إعلان انتصارها في سوريا وكانت لها الولايات المتّحدة بالمرصاد، فاستفاقت على واقع اللاإنتصار. وها هي موسكو اليوم في مواجهة خفيفة الوتيرة مع واشنطن في الساحة السورية تخشى أن يكون القرار الأميركي «أفغَنة» نوعيّة التصدّي لروسيا، كما حدث عندما تصدَّت الولايات المتّحدة للاتحاد السوفياتي بتوفيرها المجاهدين هناك بأنظمة دفاع جوي محمولة على الكتف إسمها «ستينغر»، ساهمت في سقوط الاتحاد السوفياتي برمّته من بوابة إخراجه من أفغانستان. موسكو تشكّ في نوايا واشنطن، وهي ترى أنّ قرارها اليوم برفع كلفة الحرب الروسية هدفه منع الكرملين من الانتصار- إن لم يكن إلحاق الهزيمة بروسيا في سوريا.
تركيا لن تذوق طعم الانتصار في حروبها السورية، وهي تُوسّع إطار عمليّاتها ما بعد مدينة عفرين إلى منبج وشرق نهر الفرات، لا سيّما أنها حذَّرت الجنود الأميركيّين وتحدثت بلغة المواجهة مع القوات الأميركية في سوريا.
الأكراد تسرَّعوا الى زعم الانتصار، وكانت النتيجة أنّهم خسروا في العراق وفي سوريا وعلى صعيد الطموحات القوميّة.
«الحرس الثوري» و»الحشد الشعبي» العراقي و»حزب الله» اللبناني والرئيس السوري بشار الاسد اعتبروا أنّ الذين شكّكوا في انتصار إيران إقليمياً أغبياء – فوقعت النكتة عليهم. فلا أحد انتصرَ في حروب سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا مهما تخيّل له العكس.
سورياً، ليس هناك ما يدلّ على انتهاء الحرب هناك أو عن بقاء بشار الأسد في السلطة الى أمدٍ بعيد، لا سيّما أنّ واشنطن أبلغت موسكو عزمها القاطع على مَنع انتصار الأسد وحليفه «الحرس الثوري» و»حزب الله». واشنطن قد تستخدم القوّة العسكرية ضدّ مواقع في دمشق التي تتّهمها باستخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة. إنّها تتّخذ إجراءات العقوبات الصارمة ضدّ «حزب الله» إنطلاقاً من لبنان الى أميركا الجنوبية عبوراً بالقارة الأوروبية. وهي تضع إجراءات إضافيّة تستهدف «الحرس الثوري» وتمدّ الدعم للمعارضة الإيرانية. وواشنطن مصرّة على احتواء النفوذ الإيراني خارج حدود الجمهورية الإسلامية، والذي يتوغَّل عسكرياً في الجغرافيا العربية.
ردود الفعل الإيرانية لافتة. فليس «الحرس الثوري» وحده مَن يتحدّث بلغةٍ مفادها أنّ جيشَي العراق وسوريا يُمثّلان «العمق الاستراتيجي» لإيران. المستشار للشؤون السياسية للمرشد علي خامنئي، علي أكبر ولايتي، نَبّه الى أنّ نفوذ إيران في المنطقة «حتمي»، متعهّداً باستمراره. واعتبر أنّ الاحتجاجات الداخلية يقوم بها «عملاء»، وأنّ جهاد قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني سويّة مع توجيهات المرشد ركيزتين أساسيّتين لحماية النظام في طهران.
حتى رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية حسن روحاني حذَّر قادة النظام من مصيرٍ كمصير الشاه إذا استمرّوا في تجاهل «مطالب» المواطنين. بدلاً من التنبّه الى المطالب المعيشية، قرّر مستشار المرشد ونائب قائد «الحرس الثوري» أنّ الشعارات الدّاعية الى ترك سوريا والعراق ولبنان تسلبهما الانتصار الذي يُصرّان على زعمه، مع إداركهما أنّه بات مستحيلاً.