جمع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون رؤساء الأحزاب المُشاركة في الحكومة في لقاء تشاوري لبحث عدد من المواضيع التي تهمّ اللبنانيين ومنها تمويل الموازنة، سلسلة الرتب والرواتب وغيرها من المشاريع الإقتصادية والإنمائية. وإذا كان البيان الختامي إيجابيا في المُطلق إلا أن وجود بند يُظهر بدء تدخلّ السلطة السياسية في السياسة النقدية يطرح علامات استفهام عن الأهداف والخلفيات.
إنقسم البيان الصادر عن لقاء بعبدا التشاوري إلى ثلاثة محاور هي: محور ميثاقي ومحور إقتصادي ومحور إصلاحي، إلا أن التداعيات على الإقتصاد لا تأتي فقط من المحور الإقتصادي بل أيضًا من المحور الميثاقي والإصلاحي.
في الشق الإقتصادي، ذكّر البيان بضرورة وضع وتنفيذ خطّة إقتصادية شاملة مع إقرار للموازنة العامّة بهدف تأمين نمو إقتصادي مُستدام. ولم يغفل البيان ذكر العجز في الميزان التجاري وحماية الأسواق الداخلية والإنتاج اللبناني كما والإستثمار في قطاعات «عصرية». ويرى البيان أهمية إشراك القطاع الخاص وإعتماد سياسة تسليف عمادها مصرف لبنان. ولحظ البيان دورا أساسيا للمجلس الإقتصادي والإجتماعي.
ولهذا طلب اللقاء من الحكومة وضع الخطة الإقتصادية وتأمين البنى التحتية اللازمة والتي تمرّ عبر تأمين الكهرباء، الحفاظ على الثروة المائية، إستثمار الثروة البترولية، تدعيم قطاعي الإتصالات والنقل، وإنهاء ملف المهجّرين.
في الشقّ الإصلاحي، طالب البيان بإعتماد الشفافية والفعّالية في العمل المؤسساتي، إستقلال القضاء، مكافحة الفساد كما والإستفادة القصوى من موارد الدولة ومُقدّراتها وتطبيق القوانين وتسهيل أمور المواطنين ومُعاملاتهم.
مضمون إيجابي، لكن…
إن مضمون البيان هو مضمون إيجابي من دون أدنى شكّ، وبالتالي فإن تطبيقه يكفي لجعل الإقتصاد اللبناني يتقدّم بطريقة مُستدامة. إلا أن هذا المضمون ليس له طابع إلزامي للحكومة كما أن الإتفاق على العناوين الرئيسية لا يعني أن تباعد وجهات النظر في التفاصيل ستسّمح بتنفيذ البنود على مثال ما يحصل حاليًا في قطاع الكهرباء.
إن البيان الصادر عن لقاء بعبدا التشاوري له تداعيات كبيرة على الصعيد الإقتصادي. وتتراوح هذه التداعيات بين الإجراءات البسيطة وصولًا إلى إصلاحات جذرية مرورًا بخطوات على الأمد المُتوسّط.
فالخطة الإقتصادية التي طالب البيان الحكومة بوضعها وتنفيذها تحوي على عدّة محاور:
أولًا – المحور القانوني: بالطبع تبقى أولويات الحكومة اللبنانية تطبيق القوانين المرعية الإجراء. وإذا كان هذا الأمر من مسلّمات الأنظمة الديمقراطية في العالم إلا أن النسيج الإجتماعي يمنع تطبيق القوانين في بعض الأحيان. هذه القوانين تُعتبر الهيكلية التي تُبّنى عليها الإقتصادات وبالتالي يأتي التشدّد في تطبيقها ليدعم الإطار الإقتصادي مما يزيد الثقة بالإقتصاد وخصوصًا الشق الإستثماري.
أيضًا يأتي التشريع من بين المهام التي حدّدها البيان مما يعني إقرار موازنة عامة للدولة اللبنانية (بما فيها مشروع سلسلة الرتب والرواتب) في المهل الدستورية كما وقانون الشراكة بين القطاع الخاص والعام، وقانون محاربة الفساد، وقانون منع الإحتكار وغيرها من القوانين.
ويُمكن القول أن الشق الضريبي ستكون له حصة كبيرة في التشريعات مع قوانين لدعم بعض القطاعات وإحياء مناطق معفية من الضرائب بهدف الإنماء المتوازن.
فهل سيتمكّن المجلس النيابي من إقرار كل هذه القوانين قبل الإنتخابات النيابية؟
ثانيًا – المحور الإقتصادي: المحور الإقتصادي يتضمّن خطة إقتصادية أشبه بإعادة هيكلة الإقتصاد اللبناني مع إجراء تغييرات جذرية للسياسة المالية للدولة من ناحية البنى التحتية التي ذكرها البيان بشكل مُفصّل ومنها الكهرباء والإتصالات والطرقات… لكن الأمر لم يتوقف على ذلك إذ أن البيان تحدثّ بشكل شبه تفصيلي عن دعم بعض القطاعات الواعدة («عصرية») التي قد تُساعد بشكل ملحوظ في تخفيف العجز التجاري للدولة اللبنانية.
وتأتي كلمة حماية الإنتاج اللبناني لتطرح السؤال عن ملف إنضمام لبنان إلى منظمة التجارة العالمية والتي بحسب البيان (قراءة بين السطور) سيتمّ تجميده.
السياسة الضريبية للدولة اللبنانية وخصوصًا من ناحية الإنماء المتوازن ستفرض تضحيات على مالية الدولة في وقت لم يعد بالإمكان القيام بأية تضحيات. وهنا يُطرح السؤال عن الوصفة السحرية التي تمتلكها الحكومة لحلّ هذا الأمر والذي من الظاهر أنها غير موجودة بحكم أن الدين العام أصبح يُشكل قيدا أساسيا على حركة الدولة اللبنانية في سياستها المالية.
وتطرق البيان الى ذكر «اعتماد سياسة تسليفية تشجيعية للقطاعات المنتجة يكون المصرف المركزي عمادها «. وبرأينا، يُشكّل هذا الأمر تدخلًا واضحًا من قبل السلطة السياسية بالسياسة النقدية مما يعني خرقًا واضحّا لإستقلالية السياسة النقدية المضمونة في الدستور والأعراف الدولية.
وإذا كان مصرف لبنان قد دعم في الماضي عددا من القطاعات الإنتاجية، فالسبب يعود بالدرجة الأولى إلى الغياب الكلّي للسياسة المالية للحكومة مما إضطر مصرف لبنان إلى دعم بعض القطاعات بهدف تدارك الكوارث على مثال القطاع العقاري الذي أصبح يُهدّد القطاع المصرفي.
ثالثًا – المحور المالي: أغفل البيان ذكر مسألة لجم العجز في الموازنة ولجم الدين العام. لا بل على العكس تأتي الإقتراحات الإقتصادية في البيان لزيادة الإنفاق العام مما يعني أن لبنان سيدخل في دوامة أزمة ديون سيادية لن تخرج منها الليرة اللبنانية معافاة.
رابعًا – المحور الإداري: محاربة الفساد وفعّالية الأداء الإداري للدولة اللبنانية تأتي على رأس الإصلاحات الإدارية التي إقترحها البيان، وبالتالي فإن هذا الأمر سيفرض ملاحقة أشخاص محميين من بعض أصحاب النفوذ. فهل ستتمكّن الحكومة من تطبيق الشق الرقابي وهل سيقرّ مجلس النواب قانونا لمحاربة الفساد؟
من هذا المُنطلق، نرى أن بيان لقاء بعبدا التشاوري – على الرغم من وجود ثغرات فيه – هو إيجابي بالمطلق إذ أنه وضع خطوطا عريضة للحكومة كما وللمجلس النيابي من أجل النهوض الإقتصادي اللبناني.
وتبقى العبرة الأساسية في قدرة الحكومة على إقرار الخطّة المناسبة وتطبيقها وتخطّي الخلافات السياسية التي قد تُعرقل مجرى الأمور. فهل تكون أبعاد البيان إنتخابية أم أن هناك نيّة حقيقية لدى الأطراف السياسية للمضي قدمًا في النهوض الإقتصادي والإجتماعي للمواطن اللبناني؟