الضرورات تفتح “كوّة” تفعيل البدائل الداخلية في “جدار” أزماته
يواجه القطاع الصناعي، شأنه شأن بقية القطاعات في لبنان، تحديات وصعوبات جمّة تحول دون الاستفادة من الطاقات البشرية والاستثمارية العالية التي تخوّل الشروع بنهضة اقتصادية تنتشل البلد من كبوته. إلّا أنّه ما زال يُعتبر القطاع الأقل تأثراً نسبياً بالأزمات المتناسلة. والحال أنه خلال العامين الماضيين، كان لتمادي جائحة كورونا، من جهة، وللأزمتين الاقتصادية والديبلوماسية الحالية مع دول الخليج، من جهة ثانية، دور في تعزيز وتطوير بعض الصناعات المحلية نتيجة تعذر الاستيراد وانخفاض كلفة اليد العاملة في الداخل نظراً لتراجع قيمة الليرة مقابل الدولار. فقد حلّت الأزمات على القطاع كسلاح ذي حدّين إذا جاز التعبير.
اليوم، يسعى الصناعيون إلى إعادة إحياء الصناعات الغذائية في المرتبة الأولى، صناعة مواد التنظيف والصابون، صناعة الأدوية والأمصال والأوكسجين وغيرها من المواد الطبية، إضافة إلى صناعة الألبسة والمجوهرات والأزياء التي كانت دوماً محط طلب العديد من الدول العربية وخاصة الخليجية منها. هذا ناهيك عن صناعة الأحذية كما الصناعات التدويرية كالزجاج والبلاستيك.
سلسلة من العقبات المتلاحقة
شهدت الصناعة اللبنانية منذ منتصف تسعينات القرن الماضي تدهوراً ملحوظاً نتيجة غياب السياسات الداعمة الهادفة لتحويل الاقتصاد من استهلاكي إلى إنتاجي والتركيز على القطاعات الخدماتية الأخرى لإنعاش الدخل القومي. وكان لعدم الاستقرار السياسي دوره في مراحل عدة في تفضيل الكثير من رؤوس الأموال الابتعاد عن أي مشاريع استثمارية في ظل غياب الضمانات.
عن التحديات التي تواجه القطاع راهناً والآفاق الممكنة، كان لـ”نداء الوطن” حديث مع النائب ميشال ضاهر، مؤسس شركة “ضاهر فودز”، الذي أشار، بحسب تقديراته، الى أن الصناعة تمثل اليوم 20 إلى 22% من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني الذي يبلغ حوالى 25 مليار دولار، بعد أن كانت لا تتخطى نسبة تمثيلها الـ9% قبل الأزمة. وجاء هذا الارتفاع كنتيجة مباشرة لتراجع الدخل القومي. ومن العوامل التي أثرت على القطاع الصناعي، الدور الذي لعبه ارتفاع الفوائد المصرفية التي وصلت إلى 15% أحياناً علماً أنّ العائدات الاستثمارية للصناعة لا تزيد عن الـ10%، ما ساهم في تشجيع الرأسماليين على تجميد أموالهم بدلاً من استثمارها في مشاريع صناعية. فالفوائد المعروضة آنذاك كانت تدرّ عليهم أرباحاً أكبر وبوقت أقصر. ويضيف ضاهر أنّه، وبعد الانهيار المالي الذي حصل، تجمّدت أموال الكثيرين في المصارف وأوقفت البنوك التسليفات بالدولار الهادفة إلى استيراد المعدات الصناعية مما أدّى إلى توقفه بشكل شبه كامل: “كنا نستورد سنوياً 300 مليون دولار معدات صناعية لغرض الإنتاج، وحين ازدادت الحاجة إلى الصناعة المحلية كما إلى عملية الاستثمار الصناعي، لم يعد بقدرتنا الاستيراد رغم الحاجة. فالوقت جاء متأخراً وما كان باستطاعتنا القيام به قبلاً، لم نعد قادرين على تحقيقه اليوم”.
ويشير ضاهر في سياق الحديث أيضاً إلى أنّ المسؤولية لا تقع بكاملها على عاتق السياسات المصرفية وإنّما لعدم وجود خطة ورؤية اقتصادية: “ففي حين تمّ هدر 9 مليارات دولار على دعم لم تستفد منه سوى أيادي الفساد والسرقة، يكفي تخصيص الصناعة بمبلغ مليار دولار لكان كفيلاً بإنعاش القطاع وتوفير ما يقارب 40 ألف فرصة عمل للشباب اللبناني”. بدورها، شكلت الأزمة الاقتصادية ضربة قاصمة بالنسبة لكثير من المشاريع التي كانت على وشك ان تبصر النور. هنا يقول ضاهر: “كنّا في صدد العمل على مشروع جديد حيث كان مقدّراً أن تصل كلفته إلى 20 مليون دولار، يقوم على جمع قمح لبنان بكامله وتصنيع الباستا بجودة تضاهي المعايير الأجنبية. لكن الأزمة الاقتصادية قضت على كل شيء”. لكن نتيجة الإفلاس المالي والانهيار الاقتصادي توقفت التسهيلات الخارجية لتطوير الصناعة كما قطعت الطريق أمام التمهيد لعلاقات اقتصادية أوسع بين لبنان وكافة دول العالم. من هنا طالب الحكومة بـ”البدء بمفاوضات جدية مع صندوق النقد الدولي وعدم إضاعة الوقت لأن الاقتصاد يعاني نزيفاً ويجب وقفه”.
وفوق هذا وذاك، تبقى المعضلة الأخرى العصية على الحل متمثلة في إغلاق أسواق الخليج عامة والسعودية خاصة بوجه البضائع اللبنانية المنشأ. إذ إنّ الأزمة، ينهي ضاهر، ألحقت بالقطاع خسائر بقيمة 400 مليون دولار.
الاستسلام ليس خياراً
على الرغم من واقع القطاع المرير بأبعاده الجيوسياسية والاقتصادية، إلا أن صناعيين كثراً ما زالوا يجترحون من الضعف قوّة محاولين “الاستفادة” من الأزمات لمواجهة المخاطر. هنا يلفت مدير عام جمعية الصناعيين في لبنان، السيد طلال حجازي، إلى ظاهرة تطوير الكثير من خطوط الانتاج الغذائي داخل المعامل. فمن كان يصنّع الكاتشاب، مثلاً، أصبح اليوم يصنّع المايونيز والخردل أيضاً. ومن كان ينتج الألبان والأجبان أضاف إلى إنتاجه أنواع أجبان أخرى كالموزاريلا. ونتيجة لهذا التطوير المستجدّ، بتنا نرى 80% من المواد الغذائية المحلية في الأسواق اللبنانية مقابل 20% من المواد المستوردة، في حين كان الأمر معكوساً قبل سنتين فقط. وأشار حجازي إلى صناعات أخرى في هذا السياق. فمعامل الصابون، على سبيل المثال، باتت تصنّع مساحيق الغسيل وأدوية التنظيف، في حين طوّرت معامل الأحذية صناعتها في الفترة الأخيرة حيث باشرت بتصنيع الأحذية الرياضية إضافة إلى تلك الرسمية التي كانت تنتجها قبلاً. ومردّ الاهتمام بالسوق الداخلية هو ارتفاع كلفة الاستيراد، في ظل غياب أي تسهيلات من الدولة، لا سيّما بعد أن ألغت دعم المعارض الصناعية خارج لبنان، إضافة إلى “ملل” اللبناني من البحث المستمر عن سوق يستورد منها ويصدّر إليها في خضمّ التجاذبات السياسية والإقليمية.
وعن المعوقات التي تواجه تطوير الصناعة الداخلية، يجيب حجازي أن “الروادع الصحية والحياتية اليومية وخسارة الكثير من اليد العاملة والرؤوس المفكرة في مجال الصناعة، كما غياب الرقابة في السوق وعدم محاسبة المصانع غير المرخصة التي تسوق منتجاتها بأسعار أقلَ من التعرفة (نظراً لتهربها من دفع الضرائب)، إضافة إلى المضاربة في النوعية والمعايير الموجب الالتزام بها، كلّها عوامل ستبقي الفورة التي شهدها القطاع مؤخراً خجولة”. الحل، من وجهة نظر حجازي، هو في مراعاة الشؤون الخاصة للقطاع الصناعي من خلال وضع قوانين والمباشرة بإصلاحات جديدة تنظم الدولة من خلالها عملية دفع الضرائب، آخذة بالاعتبار ضرورة عدم رفع الدولار الجمركي لا سيّما على المواد الأولية.
الحاجة أم الاختراع
معامل ومصانع كثيرة أقفلت أبوابها في السنوات الأخيرة. غير أن التطورات “السلبية أقنعت العديد بضرورة القيام بمبادرات فردية للتكيّف مع التحديات الطارئة. فها هي بعض معامل الألبسة تعيد فتح أبوابها وممارسة نشاطها مستفيدة من ارتفاع أسعار الألبسة المستوردة من الخارج. من جهتها، ضاعفت معامل الأسمدة عملها بعد أن كان لبنان يعتمد بالدرجة الأولى على استيرادها من إيطاليا وهولندا خاصة. فبعد أن أصبحت تكلفة الكيس الواحد 12 دولاراً (ما يقارب 325000 ليرة) بات يتعذر على أي مزارع تأمين سعره. من هنا جاءت فكرة إعادة إحياء المصانع المحلية وتوسيع نطاق عملها للتمكن من تغطية احتياجات السوق الداخلية.
في حديث مع المهندس الصناعي، الياس الشمالي، أوضح كيف كان للحصار الذي فُرض على البلد نتائجه الإيجابية لناحية تطوير الصناعات المحلية، لا سيما التسويق على قاعدة من المصنع إلى المستهلك (Business To Consumer). وقال: “عندما لمسنا تزايد الحاجة الماسة إلى أقنعة الوجه، بادرنا سريعاً إلى تعديل معداتنا المستخدمة في صنع الحفاضات، وبالتعاون مع مهندسين كفوئين بدأنا تصنيع الأقنعة كون المواد الأولية متوفرة”.
وعن الخطوات المتبعة لتصنيع منتج جديد يضاهي بجودته جودة الدول المصنعة، يشير الشمالي إلى مقاربتين. فإمّا أن يؤخذ المنتج ويُدرس في مختبرات مختصة بالتعاون مع الجامعات بهدف الوصول إلى سبل تنفيذه وتطوير إنتاجه، أو يكون المنتج وليد ابتكار ذاتي نتيجة تطوير دراسات تقوم بها الشركات المصنّعة”. وأردف مشدداً على ضرورة الاستفادة من تدهور سعر صرف العملة الذي انعكس انخفاضاً في كلفة اليد العاملة في لبنان التي تتقاضى رواتبها بالعملة الوطنية ليساهم في خفض كلفة الإنتاج.
وختم الشمالي متحدثاً عن المنتجات الغذائية من مربيات ومخللات وعصير بيتي وكشك وخل التفاح وغيرها. والتركيز هنا على سكان القرى اللبنانية الذين ما زالوا يصنعون “المونة” لكن بدون القدرة على التسويق تحت إسم تجاري. وهي فرصة لتشجيع الإنتاج الصناعي القروي خاصة والوطني عامة عبر تبنّي هذه المنتجات.
ما هو رأي وزارة الصناعة في ضوء ما تقدّم؟
تشير مصادر مقرّبة من وزارة الصناعة إلى أنّ العمل جار لإبقاء القطاع الصناعي منافساً رغم الصعوبات التي تعيق تقدّمه. وتتلخص الأخيرة بكلفة الإنتاج العالية إن من حيث أسعار الأراضي – كون البلد صغير الحجم ومساحاته مستثمرة بمعظمها – أو من حيث كلفة الطاقة – إذ هي تشكل أحياناً 70% من كلفة الإنتاج – إضافة إلى إغلاق المعابر الحدودية في الآونة الأخيرة بين سوريا والعراق والأردن، ما أدّى إلى ارتفاع تكاليف تصدير الإنتاج وفرض رسوم إضافية على الشاحنات اللبنانية، إلى جانب الأزمة الخليجية وتبعاتها المستمرة.
ومع ذلك، تضيف المصادر أنّ صناعات جديدة غزت السوق اللبنانية بحيث أمّنت الاكتفاء الذاتي وبدأت تصدّر إلى الخارج. وهي صناعات تعتمد على العمال اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، وهو سوق غير صغير بالنسبة إلى لبنان. أما أبرز هذه الصناعات، بحسب المصادر نفسها، فهي: الصناعات الغذائية، مواد التنظيف والمعقمات، الصابون والمعطرات، الأدوية والمواد الطبية، والألبسة المعقمة التي تحتاجها الطواقم الطبية في المستشفيات. كما أثنت على الدور الذي قام به طلاب وأساتذة بعض الجامعات في تطوير وتحسين جهاز التنفس الاصطناعي بحيث باشروا في تصنيعه في لبنان. وأضافت أن “النقص يولّد أفكاراً جديدة إذ إن جميع هذه الصناعات تفعّلت كنتيجة لكل من الجائحة وارتفاع الحاجة إلى المعدات الطبية والأزمة الاقتصادية بحيث بات الإنتاج الداخلي وسيلة لمواجهة كلفة الاستيراد العالية وصعوبة تحويل الأموال إلى الخارج”.
أمّا عن دور الوزارة الحالية في دعم القطاع الصناعي ومعالجة مشاكله، فقد أكّدت المصادر جدّية السعي لأن تضاهي الصناعة اللبنانية بجودتها نوعية الصناعات الأجنبية. فالوزارة، من خلال معهد البحوث الصناعية، اعتمدت أكثر من 15 مختبراً من أبرز المختبرات في لبنان بهدف تحقيق الرقابة الدائمة على منتجات المصانع لتراعي معايير مؤسسة المقاييس والمواصفات اللبنانية – “LIBNOR”. وعن أولويات الوزارة الحالية، تلخصها المصادر بالعمل على تصدير المنتج اللبناني، مراقبة المواصفات والحفاظ على جودة الإنتاج، إقفال المصانع غير المرخصة وزيادة منسوب الإنتاج. ليس هناك من يعتقد أن الحلول والمبادرات أعلاه، على أهميتها، هي بمثابة عصا سحرية لتنشيط القطاع الصناعي تماماً. فالمطبات كثيرة والمقاربة الرسمية يجب أن تكون شاملة ومستدامة من ضمن رؤية طويلة الأمد لمد الصناعيين بالدعم المطلوب في موازاة الجهود المبذولة من قبلهم، والتي تبقى فردية بمعظمها.