حكايات وأحداث من غياهب الازمات والصراعات
اصرار على إنجاز قانون انتخابي عصري وحديث
وقناعة شاملة بضرورة التجديد في التمثيل
فرغ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من آخر لقاءاته الرسمية، ونقل صديق عزيز عليه، انه بات يشعر بان في البلاد ثلاثة رؤساء، وثلاث سلطات، وكل واحد منهم له رأيه الخاص بما يجري في البلاد، وان لكل سلطة استقلاليتها، وان رئيس الجمهورية هو رئيس السلطات كلها، لا مجرد رئيس على سلطة.
استرعى هذا الحديث، سياسياً كان يتابع الأحداث الجارية في لبنان، وفي مقدمتها الانتخابات النيابية المقبلة، وقال بصوت هادئ، نتمنى ان يحمل ربيع الإنتخابات، تباشير عودة الحياة الى السلطات.
ووجد السياسي في تصرفات رؤساء البلاد، حرصاً واضحاً على أن يحترم كل من الرؤساء الثلاثة خصوصياتهم، وان يحتفظ ايضاً كل منهم بحدود فاصلة لكل سلطة عن سواها.
واردف: من حق رئيس الجمهورية أن يرئس السلطات، وان يمنع تجاوز أي سلطة حدود سواها، وهذا هو المفهوم الحقيقي للنظام الديمقراطي.
وتابع: وهذا هو الدور الذي يمثله ببراعة رئيس مجلس النواب نبيه بري، وهو الأمل الأخير للناس في رعاية النظام الديمقراطي، كما ان تصرفات رئيس الحكومة سعد الحريري ترعى حقوق رئيس الحكومة، وتحفظ كرامة الرئاسة الثالثة.
وتساءل السياسي نفسه عن مبررات النقد الحاف الذي يمارسه، على طريقة العميد ريمون اده، عندما بادر الى توجيه ملاحظات فاترة الى صديقه الرئيس سليمان فرنجيه انه غير مسرور بتعيين النائب فؤاد نفاع وزيراً، بعد استقالة الوزير هنري اده، وراح يردد بانه صديق للعهد، لكن النقد الحاف الذي يمارسه نوع من الديمقراطية الهادئة في عصر التباينات المفاجئة بين الأصحاب.
وأضاف: في حقبة السبعينات كانوا يفتشون عن رئيس وزراء يعاكس رئيس الجمهورية، وهذا ما لجأ اليه بِخَفَر الرئيس صائب سلام، عندما بادر الى المطالبة بإقالة قائد الجيش العماد اسكندر غانم بعد اقتحام الكوماندوس الاسرائيلي العاصمة اللبنانية وقاموا باغتيال ثلاثة من القادة الفلسطينيين أبو يوسف النجار، وكمال عدوان وكمال ناصر على الرغم من ان رئيس الحكومة اتصل عند منتصف الليلة السابقة بالقصر الجمهوري وابلغ بان سبب اطلاق النار بكثافة في بيروت، يعود الى خلافات نشأت كما يقال بين زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وأنصار كل من زعيم القيادة الشعبية جورج حبش وقائد الجبهة الديمقراطية نايف حواتمه.
رفض الرئيس سليمان فرنجيه طلب صديقه وحليفه الدائم صائب سلام، لكنه وعد باجراء تحقيق دقيق واجراء محاسبة دقيقة ل التقصير الكبير الذي اودى بسمعة السلطة، واتاح لاسرائيل الفرصة لاقتحام العاصمة واغتيال ثلاثة من ابرز قادة منظمة التحرير الفلسطينية.
بعد مدة أي في الثامن من تموز ١٩٧٣ تألفت حكومة جديدة برئاسة وزير الداخلية السابق تقي الدين الصلح، وطرح الاميركان مسألة رغبة وزير الخارجية الأميركي البروفيسور هنري كيسنجر في زيارة لبنان، في نطاق جولة عربية يزمع القيام بها لكل من مصر وسوريا ولبنان واسرائيل.
رفض رئيس الجمهورية سليمان فرنجيه مبدئياً زيارة هنري كيسنجر للبنان، لكن الرئيس تقي الدين الصلح اعتبر هذا الرفض بمثابة تخوين للقادة العرب وفي مقدمتهم الرئيس حافظ الاسد. بيد ان رئيس الحكومة اقنع الرئيس فرنجيه بحل وسط للمشكلة، فوافق رئيس البلاد على استقباله في قاعدة رياق العسكرية، لأن مرور وزير الخارجية الأميركي على طريق مطار بيروت محفوف بأخطار جمة، نظراً لكثافة الوجود الفلسطيني على الطريق بين المطار وبيروت.
في تشرين الاول من العام ١٩٧٤ تألفت حكومة جديدة في لبنان، برئاسة الرئيس رشيد الصلح، ورافق ذلك غياب وزير العهد الدكتور الياس سابا، وعزوف وزير الخارجية فيليب تقلا عن لبنان، وبقاؤه في دولة البرازيل وتعيين السيد عباس خلف الارثوذكسي الجنبلاطي وزيراً للزراعة وعودة الحرارة الى التقارب بين الرئيس فرنجيه والنائب كمال جنبلاط ودخول ماجد حماده نجل الرئيس صبري حماده والسيد طوني سليمان فرنجيه الى الحكومة.
في عصر تلك الحكومة، كانت بداية الحرب في لبنان، وهيمنة منظمة التحرير الفلسطينية على الجنوب، او على ما سمي يومئذٍ بفتح لاند.
وكانت المواجهات المسلحة، في مخيم تل الزعتر في ضاحية بيروت الشرقية والمخيمات الفلسطينية، عنواناً قاتماً لحادثة بوسطة عين الرمانة بين حزب الكتائب اللبنانية والمنظمات الفلسطينية.
وأدى سقوط عشرات الضحايا الى استقالة حكومة رشيد الصلح وتعيين حكومة جديدة من العسكريين المتقاعدين برئاسة العميد الأول المتقاعد نور الدين الرفاعي، وتولى العميد الركن موسى كنعان الأرثوذكسي الكوراني وزارة الإعلام، وأطلق على الحكومة العسكرية حكومة عسكريين وتولى الاستاذ لوسيان دحداح حقيبة الخارجية والعماد اسكندر غانم وزارة الدفاع، الا ان تلك الحكومة لم تنزل الى البرلمان واستقالت لتخلفها حكومة مصالحة برئاسة الرئيس رشيد كرامي، وضمت تلك الحكومة الأقطاب البارزين في السياسة اللبنانية مثل كميل شمعون وعادل عسيران وفيليب تقلا والأمير مجيد ارسلان.
الا ان الحكومة الكرامية عقدت قمة لبنانية سورية ضمت الرئيسين سليمان فرنجيه وحافظ الاسد وعبد الحليم خدام وانضم اليها لاحقاً للمرة الأولى الوزير جورج سكاف.
وأهمية تلك الحكومة انها اجتمعت في نادي الشرق في العاصمة السورية ووضعت الوثيقة الدستورية وكان الرئيس رشيد كرامي يمثل القيادات الإسلامية مع دار الفتوى والرئيس السوري. بيد ان ياسر عرفات وزملاءه احرقوا الوثيقة الدستورية، خصوصاً بعد امتناع وزير الخارجية فيليب تقلا عن العودة الى بيروت واسناد حقيبة الخارجية الى الرئيس كميل شمعون.
ونجم عن ذلك، انتخاب الرئيس الياس سركيس رئيساً للجمهورية، على أن يبقى سليمان فرنجيه رئيساً للبلاد، مقيماً بين القصر البلدي في ذوق مكايل وقصر الوزير لوسيان دحداح في بلدة الكفور في اعالي كسروان.
وفي الكفور استقبل الرئيس فرنجيه الموفد الأميركي دين براون حاملاً تمنيات الرئيس جيرالد فورد الذي خلف الرئيس السابق ريتشارد نيكسون بعد اعترافه بالتجسس على مقر الحزب الديمقراطي، على يد انصاره.
العاصفة السوداء
غير ان عاصفة سوداء هبّت على لبنان، عندما اقدمت عناصر مسلحة على الصعود ليلاً الى اهدن، وهي خالية من أبنائها على أبواب الشتاء، واغتيال الوزير والنائب طوني فرنجيه وعقيلته فيرا وكريمته جيهان، وهم نيام في مخادعهم.
كان الرئيس الياس سركيس في باحة قصر بعبدا، عندما بلغه خبر المأساة السوداء فضرب كفاً بكف وقال ان هذه حرب المائة سنة بين الموارنة.
الا ان تلك الحرب استمرت نحو سبعة عشر عاماً، وأقامت قطيعة بين الشمال وجبل لبنان، وصراعاً حاداً بين اهدن وبكفيا الى أن قام الرئيس سليمان فرنجيه بمبادرة لفتت الانظار، عندما طلب من العناصر الكتائبية مغادرة الشمال، ثم عمد الى فتح صفحة بيضاء ساهمت في تبديد غمائم الغضب وفتح صفحة سماح، نجم عنها زيارة الوزير سليمان طوني فرنجيه لبلدة كفرعبيدا عند مدخل محافظة الشمال.
سقطت الغيوم السوداء التي تلبدت في الأجواء بين إهدن وبكفيا وحلّت المصالحات مكان المناكفات وكان اتفاق الطائف أهم بلسم حمل الشفاء الى الجرح اللبناني الذي كان عميقاً في القلوب والصدور.
وكان مجيء الرئيس رفيق الحريري الى لبنان، في عصر الرئيس الياس الهراوي وفي أيام الرئيس العماد اميل لحود، فرصة، على مدى نصف قرن لطي صفحات الكراهية وبروز عصر المصالحات بين اللبنانيين، على ما انتاب ذلك من غيوم سوداء بين أركان رجالات الحكم، بفعل الهيمنة السورية على لبنان.
أصرّ السوريون على تفريغ إتفاق الطائف من محتواه السياسي، وتلاعبوا بالسياسيين وأقدموا على اعتقال القائد الدكتور سمير جعجع مدة طويلة، كما عمدوا الى نفي الرئيس العماد ميشال عون الى مارسيليا أولاً، ومن ثم الى لا هوت ميزون المجاورة لباريس، الى أن عاد الى بيروت، كما عاد أيضاً الى الحياة السياسية الدكتور سمير جعجع، كما استطاع حزب الكتائب اللبنانية بعد اغتيال رئيس الجمهورية المنتخب الشيخ بشير الجميّل، التمهيد لانتخاب الشيخ أمين الجميّل رئيساً للبلاد، بعد ست سنوات من حكم الرئيس سركيس متعاوناً مع صديقه الرئيس سليم الحص في الرئاسة الثالثة. بعدما كان مسؤولاً عن إدارة المصارف اللبنانية قبل ذلك.
القائد والنائب
كان ثمة من يسعى الى جعل الخلافات قاعدة للتعاون بين رئيس الجمهورية اللبنانية ورئيس الحكومة. وكان في البلاد ثمة هواة في البحث عن قيادات تستطيع افتعال خلافات ومشاكل بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، الا انه في قمة عربية عقدت في مدينة فاس التونسية، قام من يوزع أخباراً لا أساس لها من الصحة، مفادها أن الرئيس سليم الحص قدم ورقة ياسر عرفات الى القمة، امعاناً في التفرقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، الا ان الرئيس الحص سارع الى وضع النقاط على حروفها، وقال ان سليم الحص قدم الى القمة ورقته، وقد وضعت بالاتفاق بين رئيس الجمهورية الياس سركيس ورئيس الحكومة سليم الحص.
لا أحد ينكر أن لبنان عرف في عصر الرئيس الياس الهراوي، وفي عصر العماد اميل لحود ظاهرة سياسية اسمها رفيق الحريري الذي استشهد في قلب مدينة بيروت التي حضر اليها من السعودية، وهي غابة من الاشجار التي ارتفعت في شوارعها وغطت معظم أحياء وبنايات العاصمة المدمرة والمليئة بالانقاض.
استطاع الرئيس رفيق الحريري ان يحمل لقب رجل إعمار بيروت وإعادة تعمير الاحياء التي تغطي فنادقها وفي مقدمتها فندق السان جورج وفندق فينيسيا.
كان رفيق الحريري رجلاً كبيراً في طموحاته وعظيماً في احلامه، واستطاع في المملكة العربية السعودية بناء مدينة الطائف خلال عدة أشهر مما جعل العاهل السعودي الملك فهد يطلق يده في تنفيذ خطة تعمير بيروت، وتنظيفها من الانقاض.
كان الرئيس الشهيد لا يجافي الحقائق، ولا يتخلى عن المبادىء التي آمن بها، وعندما قرر العمل في السياسة حرص على أن يكون رئيس أكبر كتلة نيابية في لبنان من معظم الطوائف.
وكان رفيق الحريري يقول في مجالسه الخاصة، انه تعاون مع أفضل شباب العاصمة اللبنانية الاولى بيروت والثانية طرابلس والثالثة صيدا، المدينة التي ينتسب اليها، وحرص على أن تكون شقيقته السيدة بهية الحريري نائبة عنه في العام ٢٠٠٤، اقتحم رفيق الحريري أسوار الكرملين، وجلس ساعة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكان معه وفد من ثمانين شخصاً من كبار العاملين معه.
وفي الطريق بين الكرملين، ومقر البطريركية الارثوذكسية طلب من صديقه الوزير السابق محمد يوسف بيضون أن يذهب مع الوفد المرافق الى الفندق، وسار على الأقدام وهو يردد بانه اختار ماضيه وحاضره في العمل وانه تعاون في بيروت مع الشاب العروبي محمد قباني ورفاق له من المناضلين في حركة القوميين العرب، ولذلك، أنا سعيد الآن، لأنني نائب مع الاخ محمد قباني عن العاصمة العزيزة على قلوبنا جميعاً.
بادره أحدهم: هل أنت من رفاق محسن ابراهيم يا دولة الرئيس؟
صمت برهة وقال محسن ابراهيم ومحمد قباني وأنا من رفاق كل بيروتي ولبناني، حزبنا هو لبنان، وحركتنا هي تعمير بيروت واعلاء كرامة العاصمة التي نسعى الى بنائها مجدداً، لتغدو حلم الاجيال في عصر البناء.
رحل رفيق الحريري شهيداً وبيروت باقية عاصمة للاعمار.
كان الاسبوع الاخير، أسبوع الموازنة، فمنذ عشرات السنين تغيب الموازنة عن بلد الخير والاحلام، وغداً، عندما تعرض الموازنة على الجلسات العامة للمجلس يعرف اللبنانيون، ان بلدهم هو بلد الاحلام ولا يمكن أن يستمر بلد من البلدان، من دون دولة وموازنة.
وذات يوم قال النائب فريد مكاري، ان الله أنعم على لبنان، برجل يدعى رفيق الحريري. وهذا الرجل سعى بكل امكاناته الى خلق بلد، يحسده عليه العالم، لما ينطوي عليه من امكانات بشرية وانسانية.
ولبنان هذا هو بلد الأجيال الصامدة والساعية، من كل حدب وصوب، لتضفي عليه ثروات كفيلة بدفعه الى الامجاد، وتضفي عليه الثروة الانسانية التي لا تتكرر في كل حين.
ويقول محمود تيمور ان مصر بلد كبير، لكن لبنان بلد عظيم، وعندما يلتقي الكبار مع العظماء، فهذه هي بداية التاريخ لا نهايته.
والاستاذ طه حسين عميد الأدب العربي، ردد أكثر من مرة، ان لبنان بلد لا يضيق بالأمجاد، لانه بلد الامجاد، وعامة الصفات ومحور النجاحات.
ولعل مارون عبود أصاب كبد الحقيقة، عندما قال ان نعمة الحرية في لبنان، هي من أهم الصفات التي يفخر بها الانسان لان بلداً بلا حرية هو بلد مريض ويصعب شفاؤه في زمان قريب.
والشاعر جورج صيدح قال ان لبنان هو قصيدة عصماء في حنجرة رجال يبحثون عن الحقيقة ولا يعرفون أجمل من أبياتها والقوافي.