Site icon IMLebanon

هل تكون الرابعة ثابتة؟

 

أيّ مراقب للمشهد السياسي يخرج بانطباع واضح بأنّ الحضور الإيراني في لبنان ثانوي وهامشي مقارنة مع الحضور الدولي والأميركي تحديداً، ولكن بالمحصّلة الورقة اللبنانية في يد طهران لا واشنطن ولا غيرها.

معلوم انّ عواصم القرار تتحرّك وفقاً لأجندتها وأولوياتها، ولا تأخذ في الاعتبار ظروف دولة محددة أو مظلومية شعب معيّن، وما حصل في سوريا ويحصل في أوكرانيا يقدِّم أقوى دليل ان لا قيمة للانسان ولا لمنطق الحقّ، وأن على الشعوب ان تدافع عن قضاياها وألا تتكئ سوى على نفسها.

 

وفي جردة سريعة للموقف الدولي حيال لبنان يتبيّن ان هذا المجتمع لم يتحرّك جدياً لإنهاء الأزمة اللبنانية منذ اندلاع الحرب في العام 1975 سوى ثلاث مرات:

المرة الأولى على أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من المعادلة اللبنانية، ولكن اغتيال الشهيد بشير الجميل والهجمة المعاكسة لمحور الممانعة أجهضت المساعي الدولية، فاستمرت الأزمة بفصول جديدة.

 

المرة الثانية على أثر حرب التحرير التي خاضها العماد ميشال عون ضد الجيش السوري في العام 1989 من دون حساب لموازين القوى المحلية والخارجية، فتحرّك العالم لوقف الحرب فكان اتفاق الطائف الذي لو تم تطبيقه في لحظته لما تواصلت الأزمة بحلة جديدة، ولكن شنّه لحرب الإلغاء أسقط ميزان القوى الداخلي، فيما اجتياح الرئيس صدام حسين للكويت أسقط ميزان القوى الإقليمي، فصادرَ النظام السوري القرار اللبناني.

 

المرة الثالثة على أثر اغتيال الشهيد رفيق الحريري فأدار المجتمع الدولي محركاته لتطبيق القرار 1559، ولكن الضغط الدولي توقّف عند حدود إخراج الجيش السوري من لبنان من دون معالجة إشكالية سلاح «حزب الله» التي تواصلت معها الأزمة لأن الحزب واصل الدور السوري نفسه بحجز قرار الدولة.

 

وباستثناء هذه المحاولات على مدى 46 عاما اكتفى المجتمع الدولي بالدعوات إلى الحوار وضبط النفس وحفظ الاستقرار، اي المعزوفة نفسها. والخلاصات التي يمكن الخروج بها من إفشال المساعي الدولية لحلّ الأزمة اللبنانية تكمن في رباعية أساسية:

الخلاصة الأولى، نجاح محور الممانعة في الانقلاب على المساعي الدولية من أجل إبقاء لبنان ساحة صراع وقتال ونفوذ، كون إنهاء النزاع اللبناني يُفقد هذا المحور ورقة قوية من أوراقه إن لجهة الصراع مع إسرائيل، أو لناحية تمدُّد دوره وتوسيع رقعة حضوره.

 

الخلاصة الثانية، على رغم الضربات التي تلقاها محور الممانعة في المحطات الثلاث: 1982، 1989 و2005 نجح في تلقُّف هذه الضربات وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، الأمر الذي أبقى لبنان ساحة متقدمة من ساحات نفوذه.

 

الخلاصة الثالثة، ضُعف المجتمع الدولي الذي يكتفي بأهداف موضعية من دون استكمال دوره ومهمته في إنهاء الأزمة اللبنانية عن طريق إنهاء تأثير محور الممانعة ومنعه من الانقلاب على ما تحقّق.

 

الخلاصة الرابعة، ضُعف الداخل اللبناني وعدم قدرته ليس فقط على توحيد صفوفه، إنما على قيادة مواجهة راديكالية تضع الفريق الآخر عند حدوده وتدفعه إلى التسليم بضرورة إنهاء الأزمة اللبنانية.

 

وفي سياق كل ما تقدّم يمكن الخروج بثلاثة استنتاجات:

الاستنتاج الأول انّ المجتمع الدولي لا يتحرّك جدياً سوى بعد حرب خارجية (إسرائيل في العام 1982)، وحرب ضد سوريا (1989) كانت نتائجها كارثية وفي ظل تهيؤ المجتمع الدولي لإطلاق المفاوضات العربية-الإسرائيلية، واغتيال الشهيد رفيق الحريري الذي حصل بعد صدور القرار 1559 وفي ظل هجمة أميركية على أثر أحداث 11 أيلول 2001.

 

الاستنتاج الثاني ان المجتمع الدولي لا يُعوّل عليه للتحرُّك من تلقاء نفسه حرصا على شعب او تطبيقا للشرعة الدولية، وأولويته رفع الأثقال عن كاهله على طريقة «بَعِّد عن الشرّ وغَنّيلو»، ولا ضَير عنده إذا كان لبنان محكوما من نظام خارجي ولو على عداء مع النظام الدولي، إنما كل همه ان يبقى الوضع مستقرا، والتجربة منذ العام 1990 إلى اليوم أقوى دليل على ذلك. وبالتالي، الكلام عن مجتمع دولي هو وهم أكثر مما هو واقع.

 

الاستنتاج الثالث ان المجتمع الدولي لا يتحرّك جديا سوى في حال شعوره بمخاطر تهدِّد وضعية بأكملها وتتجاوز حدود دولة واحدة، ما يعني انه لا يتحرّك إلا عن طريق الاستدعاء ووضعه أمام أمر واقع.

 

وما لا يجب ان يغيب عن بال أحد انّ للمجتمع الدولي مصالحه التي تجعله يحافظ على مواقع نفوذه في كل الدول التي باستطاعته ان يتحرّك داخلها، ووجوده في لبنان يندرج في إطار الدور الذي رسمه لنفسه، ولكن المشكلة معه انه لا يعتمد سياسة الحسم، إنما يُبقي النزاع مفتوحاً، ويكتفي باللعب ضمن إطار الهامش الذي وضعه لحركته، وهذا ما يفسِّر مراوحة الأزمة اللبنانية بعيدا عن الحلول الجذرية.

 

وطالما الشيء بالشيء يُذكر فواشنطن لم تنسحب يوما من لبنان، إنما حافظت على وجودها ودورها الذي كان يتقدّم حينا ويتراجع أحيانا تِبعاً لمسار الأحداث وتطوراتها، وعلى رغم اهتمامها الاستثنائي في حقبات معينة على غرار مرحلة الرئيس جورج بوش الابن، إلا ان هذا الاهتمام لم يُفضِ إلى وضع حدّ للتدخُّل الإيراني في لبنان ولا إلى دفع «حزب الله» إلى تسليم سلاحه، وهذا يعني حصر الأمور في سيناريوهين:

السيناريو الأول مواصلة سياسة توازن الرعب مع الفريق الآخر في الداخل عن طريق المؤسسات الدستورية بمنعه من وضع اليدّ عليها، وقد حقّقت هذه السياسة نتائج إيجابية بدليل انّ «حزب الله» لم يتمكّن من «قبع» القاضي طارق البيطار، واضطر إلى العودة إلى مجلس الوزراء، ولم يستطع منع صدور بيان عن الخارجية اللبنانية يدين الغزوة الروسية لأوكرانيا، والأمثلة كثيرة التي تدل على استقلالية معينة مختلفة عن الزمن السوري، وان تأثير الحزب محدود، وبالتالي كيف بالحري في حال نجحت القوى السيادية في تعزيز حضورها داخل المؤسسات الدستورية، الأمر الذي سيقلِّص من نفوذه وتأثيره.

 

وفي سياق السيناريو الأول نفسه ولكن على مستوى توازن الرعب الخارجي، فإن الحضور الخارجي مهم للغاية من أجل التوازن مع طهران ومنعها من التفرُّد بالقرار اللبناني، فلا تكون الساحة اللبنانية لقمة سائغة لها، بل تحسب ألف حساب قبل ان تقدم على اي خطوة بسبب الحضور العربي والغربي.

 

وما بين التوازن الداخلي والخارجي يمكن الوصول إلى ربط نزاع جدي، ولكن هذا الربط للنزاع يُبقي الوضع اللبناني على ما هو عليه من دون تقدُّم فعلي يقود إلى حل نهائي للأزمة اللبنانية، والتعويل الوحيد هو على تطورات خارجية تُفضي إلى حل النزاع الإقليمي كمقدمة لحل النزاع المحلي، ولكن من قال ان النزاع الإقليمي سينتهي؟ وهل يجوز إبقاء الساعة اللبنانية معلقة على الساعة الإقليمية؟

 

السيناريو الثاني يرتبط باستدعاء الخارج وفق خطة داخلية مُعدة سلفاً وليس عشوائية على طريقة العماد عون في العام 1989، وما لم يتم التهيئة لاستدعاء من هذا القبيل فيعني ان الأزمة ستراوِح، واللحظة الحالية أكثر من مواتية لهذا الاستدعاء بسبب الانهيار المالي واستحالة الخروج من هذا الانهيار من دون مؤازرة دولية، والخطيئة التي يمكن ان ترتكب على هذا المستوى تتمثّل في معالجة الانهيار من دون انتزاع تنازل جدي من «حزب الله» يتعلّق بسلاحه، حيث ان الفرصة سانحة اليوم ولن تكون كذلك غدا، خصوصا عندما يستعيد لبنان استقراره ويبتعد الخطر عن الحزب.

 

فلا حاجة للتهليل لعودة المجتمع الدولي بوتيرة قوية او خفيفة كون النتيجة نفسها استمرار ستاتيكو الأزمة، فيما الخروج من الازمة لا يمكن ان يتحقق سوى من خلال استدعاء الخارج لمؤتمر دولي حان أوانه ويركِّز عليه البطريرك بشارة الراعي خير تركيز، فهل سيتم تفويت هذه الفرصة التاريخية؟

 

فلا حلّ للأزمة اللبنانية سوى باستدعاء الخارج على ان تكون الرابعة هذه المرة، لا الثالثة، ثابتة ونهائية، وكل ما هو خلاف ذلك يعني استمراراً للستاتيكو النزاعي نفسه والرابح فيه محور الممانعة كونه يصادر قرار الدولة الاستراتيجي ويبقي لبنان ساحة مستباحة لإرادته ومشيئته.