اعتقد البعض أنّ التعاطف الدولي مع لبنان على أثر انفجار 4 آب شكّل كسراً للحصار الخارجي، وأوجَد فرصة يمكن استثمارها من أجل تمديد الوضع الحالي عن طريق مَدّه بالأوكسيجين بما يُبقيه على قيد الحياة بانتظار ان تنقشع الرؤية الإقليمية.
هذا الانطباع لم يكن في محله، إذ سرعان ما تبيّن انّ التعاطف الدولي هو من طبيعة إنسانية لا سياسية، وانّ الموقف الخارجي من الأزمة اللبنانية لم يتبدّل، وهو أعمق من معادلة «الإصلاحات تفتح باب المساعدات»، ويتصل بوضع الدولة برمّتها التي يضع «حزب الله» يده عليها مع وصول المجتمع الدولي إلى قناعة بأنه لا يمكن فصل الحزب عن الدولة إلّا من خلال قطع المساعدات عن هذه الدولة تمهيداً لإعادة النظر بكل هذه الوضعية، والمقصود إخراج نفوذه من الدولة ورفع تأثيره عنها.
فالموقف الدولي من الأزمة اللبنانية على ثباته، ومن الصعوبة بمكان على الفريق الحاكم أن يتمكن من إخراج لبنان من أزمته المالية الحادة من دون المساعدات الدولية، وهذه المساعدات لن تأتي سوى وفق شروط محددة لا يملك «حزب الله» قرار التنازل ولا التجاوب معها إلّا في سياق المفاوضات المباشرة مع إيران، وبانتظار انطلاق هذه المفاوضات بعد الانتخابات الأميركية فإنّ لبنان سيبقى تحت الحصار، وأزمته المالية ستشتدّ حدة.
وفي موازاة الحصار الدولي، فإنّ الناس فقدت ثقتها في كل ما يتصل بالطبقة الحاكمة، وهناك أزمة ثقة غير مسبوقة، ولا نية لدى الناس في إعطاء الفريق الحاكم فرصة ليحكم باعتبار انّ التجارب السابقة خير دليل على ممارساته، وأي فرصة جديدة لن تكون هدراً للوقت فقط، إنما تكون تفويتاً لهذه الفرصة التي يمكن ألّا تتكرر مجدداً، لا سيما مع اكتمال كل مقوماتها: أزمة مالية حادة لا تفقه السلطة كيفية الخروج منها، حصار خارجي، احتقان شعبي، معارضة سياسية حادة، انسداد في الأفق السياسي، العودة إلى طروحات تتجاوز آنية الأزمة إلى جوهرها من قبيل الحياد الذي يرفعه بثبات البطريرك الماروني بشارة الراعي.
فهذه العوامل مجتمعة يجب ان تقود إلى تسوية وطنية، ولو مرحلية تمهيداً لتسوية نهائية، وليس إلى تسوية حكومية تمدّد الوضع المَشكو منه، فأيّ مَد يَد يجب ان يكون مشروطاً بتنازلات جوهرية، وإلّا ترك الفريق الحاكم يتدبّر أمره عملاً بقاعدة «يَلّي طَلّع الحمار على المئذنة عليه أن ينزله»، فالأكثرية النيابية معه وبإمكانه تكليف من يريد وتشكيل الحكومة التي يراها مناسبة.
والجديد في هذا الوضع انّ المبادرة لم تعد في يد القوى المحلية التي اعتاد البعض منها على تنازلات وتسويات تحت عنوان أولوية الاستقرار و«أم الصبي» وغيرهما، إنما المبادرة أصبحت كليّاً في يد عواصم القرار الأساسية التي بَدّلت بدورها بمقاربتها للأزمة اللبنانية من خلال انتقالها من أولوية الاستقرار إلى أولوية حصار الدويلة ولو ارتَدّ هذا الحصار على الدولة برمّتها، والمقصود بذلك انه حتى لو قررت بعض القوى مَد اليد إلى الفريق الآخر فلن تكون قادرة على كسر الحصار الخارجي، إنما سيكون شأنها شأن الفريق الحاكم.
وهذا ما يفسِّر عزوف الرئيس سعد الحريري عن ترؤس الحكومة العتيدة، لأنّ أبواب واشنطن والرياض موصدة، وباريس لن تساهم بفتحها سوى وفق شروط صارمة تتعهّد بتنفيذها ولا مؤشرات بأنّ الفريق الحاكم على استعداد لتلبيتها، والدليل انه ما زال يُكابر بين مطالباته بحكومة وحدة وطنية او تكنوسياسية او اشتراطه من يترأس الحكومة ومن يسمّي الوزراء والحقائب التي يريد الاحتفاظ بها، ولا يجد نفسه معنيّاً بأيّ تنازل يحدّ من سطوته وإمساكه بمفاصل السلطة والقرار، وكلّ هدفه شراء الوقت ضمن التوازنات الحالية والستاتيكو الراهن.
والقناعة باستحالة التعاون مع الأكثرية الحاكمة بعد الأزمات المتناسلة والفشل في إدارة الدولة يفترض ان تكون ثابتة وراسخة من دون الحاجة إلى موقف خارجي، وأيّ تفكير آخر هو تنازل مجاني وخدمة كبرى لهذه الأكثرية على حساب البلد والتضحيات والشهداء والنضال، والأهم التجربة التي أكّدت المؤكّد بأنه لا يمكن بناء دولة مع هذا الفريق ولا إخراج البلد من أزمته، ولكن قد يقول قائل: ماذا عدا ممّا بَدا ليتخذ اليوم قرار فك الارتباط مع الأكثرية خلافاً لاستراتيجية التعايش المتّبعة منذ العام 2005؟
والجواب بسيط وله علاقة بتطور الموقف الدولي الذي لم يكن على هذا النحو سابقاً عندما كانت أولويته الاستقرار ولو كان كامل القرار بيد «حزب الله»، ولا حاجة للتذكير بأنّ المجتمع الدولي لم يأبه لإسقاط حكومة الرئيس الحريري الأولى من الرابية بقرار من الضاحية، بل تعامَل بانفتاح تام مع الحكومة التي تلتها ولم تشارك فيها 14 آذار للمرة الأولى منذ أولى حكومات ما بعد الخروج السوري من لبنان. وبالتالي، لم يكن امام الداخل سوى تقطيع الوقت بسبب التخلّي الدولي عن لبنان، ولكن مع تبدُّل الموقف الخارجي ربطاً بالاعتبارات المتصلة بمواجهته مع طهران، لا بد من تقاطع الموقف الداخلي معه، وذلك تماماً كما حصل مع القرار 1559 والتقاطع الأميركي-الفرنسي على إخراج سوريا من لبنان.
وحيال هذا الواقع لم يبق أمام الفريق الحاكم وبعد دعوة الرئيس الحريري إلى سحب اسمه من التداول، سوى أن يقنع الحريري بترشيح شخصية غير استفزازية وتحظى بموافقة هذا الفريق، ولكن رئيس «المستقبل» لن يزكّي شخصية يعرف سلفاً انها ستفشل لسببين: عدم قدرتها على الخروج من السرايا إلى أي عاصمة عربية او غربية، وعدم قدرتها على تحقيق أي إصلاح في ظل سطوة الفريق الحاكم؟
ومع انسداد الأفق الداخلي والخارجي أمام فريق 8 آذار أصبحت خياراته محدودة بين تفعيل حكومة تصريف الأعمال، أو إعادة إنتاج حكومة نسخة طبقة الأصل عن المستقيلة، ومن دون ان يتمكن طبعاً من مواجهة الأزمة المالية، وكل جهده سينصَبّ على تأخير السقوط الحتمي في دائرة الفوضى، ولن يكون بمقدوره فِعل أي شيء: لا قلب طاولة في الداخل، ولا فتح مواجهة مع إسرائيل، إنما أقصى ما يمكنه القيام به الحفاظ على وضعيته وتأخير السقوط تحسيناً لشروط مفاوضاته اللاحقة.
وأكثر ما ينطبق على الواقع الحالي المثل القائل «عند تغيير الدول إحفظ رأسك»، حيث تحوّل «حزب الله» مع هذا التحول الهائل في المنطقة إلى لاعب صغير، وانتقل كل محور الممانعة من الفِعل إلى رد الفعل وصولاً إلى اعتماد السياسة الانتظارية للخطوة الأميركية التالية. وفي ظل هذه السياسة الانتظارية بالذات لا يجب استبعاد احتمال ان يتجاوز الحزب ثنائية إمّا حكومة بشروطه وإمّا حكومة تصريف أعمال، لأنه في الحالتين ستسقط الدولة وتنهار. وبالتالي، ان يتجاوز هذه الثنائية باتجاه الموافقة على حكومة لا تأثير له عليها ويتولى إقناع حليفه العوني بأن يحذو حذوه، ولكن على أساس شرطين أساسيين: الشرط الأول ان تتدفّق المساعدات الخارجية، والشرط الثاني عدم المَس بالملفات الاستراتيجية التي تبدأ بالسلاح ولا تنتهي بالحدود، والتي تدخل في سياق الملفات الإقليمية أكثر منها المحلية، وما بين السلاح والحدود يوافق على انتخابات مبكرة التي تحوّلت إلى مطلب دولي، وإقفال المعابر غير الشرعية، وإعادة هيكلة كل الوزارات والقطاعات والمؤسسات.
فهل هناك مبادرة من هذا النوع؟ وهل هي قابلة للحياة أميركياً وسعودياً ومحلياً؟ وهل هي مبادرة الحد الأدنى التي باستطاعة الرئيس الفرنسي حملها؟
ومن لم يقتنع بحراجة الوضع ودقّته ما عليه سوى استخلاص العبَر من التحذير الفرنسي المتجدّد على لسان وزير الخارجية جان إيف لودريان، الذي قال انّ «الخطر الذي يواجهه لبنان اليوم هو الزوال»، فهل من يسمع؟