IMLebanon

الديار: المجتمع الدّولي يُشكك بقدرة الحكومة على لجم العجز … هل تخلّت عن سيدر؟

 

بروفسور جاسم عجاقة

 

جلسات ماراثونية قامت بها الحكومة اللبنانية لإقرار مشروع موازنة العام 2019 قبل رفعه إلى مجلس النواب لدراسته وإقراره. جلسات استطاعت من خلالها الحكومة خفض عجز الموازنة بـ 4% من الناتج المحلّي الإجمالي تقريبا. إلا أنه وعلى الرغم من هذا المجهود «الهائل»، شكّكت وكالتا التصنيف الائتماني «فيتش» و«ستاندارد أند بورز» في قدرة الحكومة اللبنانية على الالتزام بنسبة العجز التي وضعتها في مشروع قانون الموازنة.

 

في موازاة ذلك زاد الحديث في الفترة الأخيرة عن توطين الفلسطينيين في لبنان مع ظهور ما يُسمّى بـ«صفقة القرن» والتي من الظاهر أنها ستؤمّن لإسرائيل السلام مع جيرانها العرب وضمان عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا من أراضيهم بسبب النكبتين.

 

تشكيك دولي

 

بدأ التشكيك في مشروع موازنة العام 2019 حتى قبل إقراره من قبل مجلس النواب. وإذا كان يُمكن اعتبار التشكيك الداخلي هو من باب المناورات السياسية كما هو الحال في العديد من القرارات التي تتخذها الحكومة، إلا أن وقع تشكيك وكالات التصنيف الإئتماني يبقى الأكبر خصوصا أنه من المفروض أن لا خلفيات سياسية وراء عمل هذه الوكالات وبالتالي هناك مصداقية أكبر لانتقاداتها.

 

داخليًا، الأحزاب السياسية المُشاركة في الحكومة (والتي تُشكّل الأغلبية في مجلس النواب) وافقت بالإجماع على مشروع الموازنة مع تحفّظ بعض هذه القوى عن بعض المواد المُدرجة في مشروع قانون الموازنة. وأخذ بعضها الأخر طابعًا أكثر معارضة على هذه البنود من خلال إظهاره أمام الرأي العام، مما فسّره كثيرون على أنه محاولة لحفظ ماء الوجه أمام جماهير هذه القوى.

 

الأحزاب المُعارضة التي لا تُشارك في الحكومة، شكّكت في كل الموازنة واعتبرت أن موازنة العام 2019 هي صورة مطابقة لموازنة العام 2018 من ناحية النتائج وأن العجز المُتوقّع في مشروع الموازنة هو عجز دفتري فقط. وانتقدت ما سمّته الضرائب على المواطن.

 

عمليًا على الأرض لن تلقى المعارضة الداخلية أي صدى على صعيد مجلس النواب وعلى صعيد الشارع بحكم أن الانقسام السياسي الحاصل في كل مكونات المُجتمع يشمل المؤسسات الدستورية وبالتالي (وبأغلب الاحتمالات) لن نشهد أي عملية قلب للطاولة من قبل أحزاب السلطة في المجلس النيابي.

 

المُشكلة تأتي من التشكيك الخارجي والذي له وطأة أكبر في الأسواق المالية بحكم أن وكالتي التصنيف الإئتماني هما من قام بهذا التشكيك، ووقع استنتاجات الوكالات في الأسواق أكبر بكثير بحكم أن الأسواق تستند إلى تقاريرها في قرارات الاستثمارات.

 

وكالة «ستاندرد أند بورز غلوبال»: صرّحت وكالة «ستاندرد أند بورز» للتصنيفات الائتمانية الثلاثاء الماضي ان الخطة التي وضعتها الحكومة اللبنانية لخفض عجز موازنتها من 11.5% إلى 7.59% من الناتج المحلّي الإجمالي في مشروع موازنة العام 2019، قد لا تكون كافية لاستعادة الثقة التي تضررت في البلد المثقل بالديون. وأضافت أن «الإعلان عن خفض العجز إلى 7.6% من أكثر من 11% العام الماضي قد لا يكون كافيا في حد ذاته لتحسين ثقة المودعين والمستثمرين غير المقيمين، والتي تراجعت في الأشهر الأخيرة». وبالتالي فإن عدم تحقيق الهدف الجديد هو أمر وارد واحتمالاته مُرتفعة من ناحية أن الإجراءات المُتخذة لن تُطبّق إلا على ستة أشهر من السنة. وقدّرت وكالة «ستاندرد أند بورز» للتصنيفات الائتمانية عجز الموازنة في لبنان في العام 2019 بحدود الـ 10% بحكم غياب «تعزيز جوهري للإيرادات وإجراءات خفض النفقات». الجدير ذكره أن العواصف السياسية التي ضربت لبنان العام الماضي وبداية هذا العام، دفعت بالوكالة في أذار الماضي إلى خفض تصنيف لبنان الائتماني إلى درجةB- مع نظرة مستقبلية سلبية.

 

وكالة «فيتش»: من جهتها صرّحت وكالة «فيتش» للتصنيفات الائتمانية البارحة أن الخطة «الطموحة إلى حد كبير» التي وضعتها الحكومة اللبنانية للجم العجز هي خطوة في الاتجاه الصحيح لكنها ليست كافية «لاستعادة الوصول إلى أسواق الاقتراض». وأضافت أن هناك ردّة فعل إيجابية على هذه الخطّة، لكنها ستفقد هذه الإيجابية مع سجل الأداء السلبي للبنان على الصعيد المالي. وتوقعت الوكالة أن يكون عجز الموازنة بحدود الـ 9% من الناتج المحلّي الإجمالي أي أعلى بنقطة ونصف من العجز المُتوقّع في مشروع الموازنة. الجدير ذكره أن فيتش خفّضت تصنيف لبنان الائتماني إلىB- مع نظرة مُستقبلية سلبية وذلك على أثر إقرار سلسلة الرتب والرواتب.

 

لكن الأهم في كل ما قالته فيتش هو تخوّفها من تراجع الودائع نتيجة مخاوف المُستثمرين خصوصًا إذا لم تلتزم الحكومة بعجز فعلي موازي للعجز المُتوقّع في الموازنة. وهذا الأمر ستكون له تداعيات على احتياطات مصرف لبنان.

 

تصاريح وكالات التصنيف الائتماني (S&P وFitch) لم تمرّ مرور الكرام، فقد تفاعلت الأسواق المالية بشكل فوري مع هذه التصاريح. والمُتضرر الأول كان سندات الخزينة بالدولار الأميركي أو ما يُعرف باليوروبوندز، حيث وبتاريخ 28/5/2019 وعلى أثر صدور بيان وكالة «ستاندرد أند بورز»، انخفض سعر تداول سندات الخزينة بالدولار الأميركي بشكل فوري من 82.86 نقطة إلى 82.34 نقطة وتابعت انخفاضها مع صدور تقرير وكالة «فيتش» لتصل إلى 81.71 نقطة البارحة عند الساعة الرابعة بتوقيت بيروت.

 

فرصة أخيرة حتى نهاية هذا العام

 

الأسواق المالية تعتمد بالدرجة الأولى على المصداقية والتي تزيد من ثقة المُستثمر وبالتالي من استثماراته. هذه المصداقية تنص على «قول ما نريد فعله، فعل ما قلناه، والتذكير بما قلناه وما فعلناه». هذه المُعادلة هي التي يتبعها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يُذكّر في كل مرّة أن «الليرة مُستقرّة وستبقى مُستقرّة» وبالتالي هو يذكر في كل مرّة ما قال وما فعله وما سيفعله في المُستقبل، أمّنت ثقة عالمية بالليرة اللبنانية كما تُظهره الاستثمارات بالليرة اللبنانية لغير المقيمين.

 

المُشكلة التي تواجهها الحكومة اللبنانية هي أن كل الحكومات المُتعاقبة من باريس 1، باريس 2، ستوكهولم، باريس 3 وحتى موازنة العام 2018، لم تلتزم هذه الحكومات بأي تعهّد قامت به بغض النظر عن الأسباب. وهذا الأمر أفقدها المصداقية أمام الأسواق المالية التي تُعطيها الفرصة الأخيرة حتى نهاية العام لمعرفة إذا ما كانت ستلتزم أو لا بتعهداتها في الموازنة.

 

وإذا كانت المشاكل المالية مُستبعدة جدًا هذا العام على الرغم من الاستحقاقات المالية (1.5 مليار د. أ. في تشرين الثاني القادم)، إلا أن المخاوف ستظهر حكمًا العام القادم مع استحقاقات مالية عديدة أولها في شهر أذار 2020 مع استحقاق مالي بقيمة 1.2 مليار دولار أميركي.

 

لذا تظهر الأشهر الستة القادمة كأخر فرصة أمام الحكومة اللبنانية لاستعادة ثقة الأسواق المالية قبل بدء المرحلة الصعبة التي ستكون خاتمتها الوصاية الصندوقية.

 

التوطين يدخل من الباب العريض

 

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن توطين الفلسطينيين في لبنان، وانتشرت في وسائل الإعلام معلومات كما لو أن الأمر أصبح محسومًا والقضية قضية وقت. وتُفيد مصادر أن توزيع اللاجئين الفلسطينيين على مخيمّات جديدة تُحاكي النسيج اللبناني من ناحية توزيعها الجغرافي أصبح في شبه المحسوم حيث يتمّ شراء أراض بأسماء شركات أجنبية لاستيعاب اللاجئين.

 

وهذه العملية تدّخل في ما يُسمّى صفقة القرن التي أصبح من الواضح أن هدفها إرساء السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب وضمان عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين الذي تهجّروا على أثر النكبة الأولى والنكبة الثانية.

 

وتبقى وحدّة الصف اللبناني من حيث المواقف الرافضة للتوطين وعلى رأسها مواقف الرؤساء الثلاثة هي الضمانة الوحيدة التي يُمكن أن يُعوّل عليها. إلا أن العديد من المراقبين يقولون إن التوطين هو أحد شروط مؤتمر سيدر، وبالتالي فإن الاستفادة من أموال سيدر تمرّ حتميا بقبول توطين الفلسطينيين في لبنان. فهل فعلاً التوطين هو أحد شروط مؤتمر سيدر؟

 

الموقع الإلكتروني لرئاسة مجلس الوزراء لا يحوي على مُستند رسمي فيه شروط لمؤتمر سيدر، وهذا الأمر يُفسّره البعض على أنه نتيجة طبيعية لغياب أي شروط ولكن تعهدات من قبل الحكومة اللبنانية. لكن مُستند «Vision for Stabilization, Growth and Employment» يحوي على تعهدات للحكومة اللبنانية بعدد من الإصلاحات المالية، الاقتصادية والإدارية. من هنا نرى ضرورة أن تضع الحكومة لدى الرأي العام مُستنداً يحوي على شروط مؤتمر سيدر (إذا ما وجدت) و/أو تعهدات الحكومة في هذا المؤتمر بحكم أن الشعب اللبناني هو من يلتزم ماليًا مع المجتمع الدوّلي جراء الـ 11 مليار دولار قروضاً.

 

هل تخّلت الدوّلة اللبنانية عن سيدر؟

 

مصادر وزارية تُشير إلى أن هناك اتجاهاً حكومياً للتخلّي عن مؤتمر سيدر لما يفرضه من شروط قاسية لا تستطيع السلطة السياسية القيام به لعدّة أسباب. وهنا يُطرح السؤال إذا ما كان التوطين أحدها؟

 

على كل، ما هو البديل عن سيدر إذا ما كانت الحكومة بصدّد التخلّي عنه؟ المصادر تُشير إلى أن هناك توجّهاً عاماً في الأوساط السياسية إلى اللجوء إلى البنك الدوّلي الذي أبدى استعداده لتمويل مشاريع بقيمة 3 مليار دولار أميركي، مع العلم أن الحكومة اللبنانية لا يُمكنها استيعاب أكثر من 1 مليار إلى 2 مليار سنويًا بسبب المشاكل اللوجستية الناتجة من تنفيذ المشاريع، ولكن أيضا بسبب التضخّم الذي قد يُسبّبه ضخ هذا الكمّ الهائل من الأموال في وقت قصير.

 

في الختام نرى أن لبنان هو فعلاً على مُفترق طرق أساسي والرجوع عن الخيارات لن يكون سهلاً في المرحلة المُقبلة خصوصا إذا كانت هذه الخيارات تحوي الدخول في التزامات لها خلفيات سياسية.