قبل مؤتمر “دعم سوريا والجوار”، كما بعده، لم يعلق لبنان الآمال الكبار على ما يمكن ان يحصده من الأموال المعقودة من المانحين للاجئين السوريين داخل سوريا وخارجها، إنطلاقاً من تجارب مريرة سابقة مع مؤتمرات المانحين، حيث تلقى جرعات دعم مادي ومعنوي غير مسبوقة، لم يحصد منها الا القليل، غير الكافي لتأمين مقومات صمود المجتمع اللبناني في وجه موجات النزوح الكثيفة التي غزت أراضيه.
في العام 2012، قدّر البنك الدولي في تقرير له الآثار الاقتصادية للاجئين للفترة الممتدة بين عامي 2012 و2014، بـ7 مليارات دولار على اساس إحصاء لمليون نازح سوري.
ليس من ارقام دقيقة لما حصل عليه لبنان من المانحين، لكن كل المواقف الرسمية تشير الى ان التمويل الدولي لم يتجاوز50 في المئة مما كان معقودا له، وهو لم يبلغ حتما ما قدره البنك الدولي، في حين ان عدد النازحين تجاوز كل التقديرات ليقارب في نهاية هذه السنة المليوني نازح.
لم تخيّب نتائج مؤتمر لندن الوفد اللبناني بما انها عكست “سخاء” غير مسبوق تجاه أزمة اللاجئين، لكنها في الوقت عينه لم تعلل الآمال بحصول تدفق مالي في المدى المنظور لسببين: أولهما ان التمويل الدولي يمتد على خمس سنوات من دون تحديد بعد لميزانية كل سنة، وثانيا لأن الدول المانحة لم تحدد كذلك وجهة اموالها لأي بلد ولأي مشروع، ومعلوم ان لبنان ليس الوحيد المستفيد من هذا التمويل، اذ هناك سوريا في الدرجة الاولى ومن بعدها دول الجوار المقصود بها لبنان والأردن وتركيا. ومعلوم ايضا ان آليات التمويل هي اكثر وضوحا وتنظيما في كل من تركيا والأردن خلافا لوضع لبنان الذي كان يفتقد الادارة السليمة للتمويل والشفافية.
والواقع ان لبنان تدارك هذه الثغرة التي شكلت مبررا لدول عدة للتخلف عن الإيفاء بالتزاماتها، وبات يدرك أصول اللعبة الدولية في إدارة التمويل: مشاريع واضحة ومحددة، وطلبات واضحة ومحددة تلبي ما يريده الأوروبيون. وفي الحال الراهنة، جلَ ما يقلق الأوروبيين هو التدفق الغزير وغير المضبوط للاجئين اليهم، وكل مشروع يجعلهم يبقون حيث هم مرحب به!
هكذا كانت الحال بالنسبة الى المشروعين اللذين تقدمت بهما الحكومة اللبنانية: احدهما لتعليم السوريين، والثاني لتوفير فرص العمل لهم، بما يضمن بقاءهم في لبنان حتى انتهاء الأزمة. وبما ان الأزمة طويلة جداً وتقدر بسنوات عدة في ظل تعثر الحلول السياسية، فإن مثل هذه المشاريع تؤمن الاندماج الطبيعي للاجئين في المجتمع اللبناني.
فالمدارس اللبنانية الرسمية تستقطب اكثر من 50 في المئة من التلامذة السوريين، فيما المشروع المقترح حاليا من وزارة التربية سيؤمن فرص التعليم للباقين. وحسنات هذا المشروع ان التلامذة اللبنانيين يتعلمون كذلك على حساب المانحين بما ان التعليم الرسمي اصبح مجانيا، كما يتيح لمّ الأولاد السوريين من الشوارع وتنشئتهم على العلم بدلا من تركهم اسرى تربية الشارع.
في هذا المجال ، الالتزام الدولي واضح: الحكومة ملتزمة قضية اللاجئين، وقدمت خطة جيدة ومتماسكة لما تريده، على ما كشفت مصادر ديبلوماسية بريطانية شاركت في مؤتمر لندن، وهذا الالتزام هو ما جذب المانحين لتلبية الحاجات اللبنانية، لكن البلاد تحتاج الى الكثير من الدعم، وعلى المجتمع الدولي إظهار التزامه.
لكن في المقابل لبنان قال كلمته في المؤتمر: فعلنا كل ما طلبتموه منا على مدى 5 سنوات، وكان تجاوبكم ضعيفاً مقارنة مع ما قدمه الشعب اللبناني. وقد بتنا الآن على شفير الانهيار. التهديد بنفاد قدرتنا على التحمل بلغ نهاياته ولبنان لم يعد يحتمل، وإذا كان ثمة مظلة دولية حقيقية لتحصين أمنه واستقراره كبوابة عبور اخيرة للاجئين قبل ان يصبحوا داخل البيت الاوروبي، فإنه الوقت للتصرف، وإلا، فإن البلاد ستنهار. وهذا ما يفسر ايضا طلب لبنان الدعم المالي لمشاريع بنى تحتية ولدعم الموازنة.
في المقابل، وفي حين تعترف المصادر البريطانية بغياب آليات الدعم الواضحة، تتوقع ان يصدر ذلك تباعا وان يتبلغ لبنان ما تم رصده له من المانحين في الأيام القليلة المقبلة، كاشفة ان ارساء آليات التمويل والتنفيذ سيتم بالشراكة بين لبنان والجهة المانحة، مشيرة الى ان هذه الآليات ستكون موضع بحث في اجتماعات الربيع مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كما ان لبنان مدعو لتحديد الجهة المحلية التي ستتولى التنظيم، وإلا، فإن ثمة تخوفا من ان يتأخر وصول الأموال، لكن ما يقلل هذا الخطر هو ان أوروبا قلقة جداً وجادة أكثر في وضع حد لهذا الخطر الذي يتهددها وستسعى بكل قوة لتحقيق ذلك. وفي هذه الحال، ما على لبنان الا استغلال الخوف الاوروبي والإفادة من الدعم المتاح، لأن أي غرق في جدال داخلي حول أهداف الدعم الدولي وما إذا كانت تؤدي الى التوطين سيضعف الموقف اللبناني، باعتبار ان كل القوى السياسية اللبنانية تدرك ان الوضع السوري يختلف عن الوضع الفلسطيني لسببين: الاول ان السوريين لديهم ارض ووطن، وان الوجود السوري في لبنان كان حاضرا تاريخيا قبل الأزمة وبعدها، وان العمالة السورية ستنتقل الى سوريا فور بدء عملية اعادة الإعمار. وعلى اللبنانيين في مثل هذه الحال، ان يحجزوا اماكنهم في تلك العملية عندما يحين أوانها مهما تأخر.