لا يقلع أركان السلطة عن “ألاعيبهم” ومناوراتهم السياسية المقيتة المفضوحة، تحت أي ظرف من الظروف الاقتصادية والمالية والمعيشية المتدهورة. “كورونا” الشراهة إلى السلطة والمال يضربهم من أكبرهم إلى أصغرهم، ما يجعلهم يقامرون شر مقامرة بمصير شعب برمته.
يكابرون ويكابرون إلى أن اضطروا مكرهين، بعد إنتفاضة 17 تشرين وفي زمن حكومتهم العاجزة، للإنصياع تدريجياً لكن “تكتيكياً” إلى المطالبة الدولية بوقف الفساد المستشري وتطبيق إصلاحات تقيهم شر الإنهيار المطلق وتحويل لبنان إلى دولة “مارقة”، جراء “الدولة العميقة” لـ”حزب الله” التي لم تعد تنطلي على أحد.
ولعل آخر إخفاقاتهم وتخبطاتهم، مناشدة صندوق النقد الدولي لمساعدتهم، على الرغم من الحملة الشعواء التي شنوها عليه وإطلاق أقذع العبارات من استلاب سيادة الدول وبيع مرافقها تحت عنوان الخصخصة وتطويعها، وفجأة بسحر ساحر إبتلعوا ألسنتهم أقله علناً، غير أن ما لا يعلمه وفد صندوق النقد الذي استجاب وحضر إلى لبنان الخميس الماضي وبدأ اجتماعاته، ان هذه السلطة المعتمدة تدفن رأسها في الرمال، وتعتمد مذهب “التقية السياسية” في التعامل معها، إلى حين تنفذ انقلابها عليه حين يصل “الموسى إلى ذقنها”!.
بداية، لا تبدو وصفات صندوق النقد الدولي للبنان ونصائحه، غير ما يقترحه مصرف لبنان على الدائن من خطوات، تضمن عودة الأموال المستدانة مع الأرباح الى المصرف. واذا كان في ذلك تبسيط يحذر البعض من الركون اليه، الّا أن ذلك يمكن أن يختصر الى حدّ كبير واقع لبنان اليوم في علاقته مع اي جهة مالية يمكن ان تقدم للبنان المال الذي يحتاجه للجم الانهيار الذي يصيب مجمل قطاعاته الاقتصادية والمالية.
لعل المفارقة التي تبرز في هذا السياق، تكمن في أنّ المعترضين على فكرة التعامل مع صندوق النقد الدولي، هما طرفان، واحد منهما يعتقد ان في ذلك بيعاً وتسليماً للدولة ومؤسساتها او القطاع العام لجهات خارجية، وبالتالي سلب السيادة من قبل جهات مالية ودولية، فيما الطرف الثاني من اطراف السلطة يتخوف من ان يؤدي ذلك الى تحجيم مواقعه والتضييق على مكاسبه غير المشروعة من القطاع العام، الى جانب المخاوف من ان تؤدي هذه العلاقة ومتطلباتها، الى احداث اهتزازات اجتماعية بسبب الاجراءات القاسية التي ستطال المواطنين على وجه عام.
في كلا الحالين ربما ثمة ما يبرر الموقف الرافض او القلق، لكن ما لا يمكن فهمه او تبريره، يتصل في هذا الاصرار على عدم التعامل مع اطراف السلطة بوضوح تام، ذلك أنّ السلطة بمن يحكم اليوم او كان شريكاً في الحكومات السابقة، تتحمل مسؤولية مطلقة تجاه السلوك “الافتراسي” من قبلها للمال العام وللمؤسسات العامة، وعملت بقصد او غير قصد على تجويفها، بل أن العلاقة الثابتة بين اقطاب السلطة هي المحاصصة، كعبارة مخففة لتوصيف الفساد كمكون لتحالف اطراف السلطة واركانها الفعليين.
استيراد النفط
لا يستقيم الحديث هنا من دون التطرق الى كشف الفساد في استيراد النفط بما فيه الغاز والفيول، الذي راح البعض اخيراً يحيله الى اتفاق الطائف الذي اراد بحسب ما تسرب، اغراء قادة الميليشيات للدخول في الدولة والتنازل عن المكتسبات غير المشروعة التي كانت مشاعاً لهم في الحرب، وعلى رغم ان هذه الميليشيات ابتلعت الدولة من دون ان تنضوي فيها بشروط الدولة، بقيت طيلة العقود الثلاثة الاخيرة متشبثة بما تعتبره حقّاً مكتسباً لا تتنازل عنه.
و بالإنتقال الى قطاع الكهرباء، فلا أحد ينكر أن اقل من نصف العجز المالي الذي يعاني منه لبنان هو من خسائر هذا القطاع، الذي لا يمكن النظر الى فشله باعتباره فشلاً عفوياً غير مدروس ومقصود، وبات يرتبط بكل متعلقاته بالمولدات الخاصة التي يقدر حجم اعمالها بثلاثة مليارات دولار اليوم، والجزء الأكبر منه يقع تحت اشراف قوى السلطة والميليشيات التي تديرها حالياً، وبات شرط استمراره ان تبقى مؤسسة كهرباء لبنان في حالتها المرضية التي امتد “فيروسها” الى كل القطاعات الخدماتية وان بتفاوت ولكن على نفس المسار، وأدت الى نفس النتيجة التي تختصرها كلمة استفحال الفساد.
في مؤتمر “سيدر” الشهير لم يكن لبنان بعد في وضع ميؤوس منه، وان كان في درجة متقدمة من المرض العضال، لم تفلح السلطة في تجديد دورها، بل تمادت في ادارة الظهر لكل النصائح الخارجية والداخلية، بضرورة القيام باجراءات محددة ومعروفة لتخفيف عجز الموازنة ولجم الانهيار الذي كان نتيجة طبيعية لسلوك السلطة وادائها. لم تستجب السلطة وبالغت في سلوكها “المتوحش” وغير المشروع للمال العام، وتمّ ذلك على مرأى الجميع ليس في لبنان وحسب، بل حتى امام أعين الخارج الذي ظلّ مواكباً في تقديم النصح، وكان الفرنسيون اكثر اهتماماً من سواهم في رفع الصوت والتنبيه ثم التحذير، ولكن.. “لا حياة لمن تنادي”.
اليوم غير الأمس وصندوق النقد ليس جمعية خيرية تهتز عواطفها وتشتعل امام الأيدي الممدودة من السلطة او الشعب اللبناني، وهذا ما يجعل لبنان امام امتحان حقيقي، فالانتفاضة التي حققت انجازات مهمة على صعيد فضح السلطة وكشف انهيارها الاخلاقي والسياسي، لم تحقق بعد القدرة على فرض التغيير في منظومة الفساد المستمرة من دون توقف، وان تراجعت، فهو تراجع في القدرة وليس في الذهنية والمنهج، ان عدم نشوء معارضة في مجلس النواب تمثل القوى التي خرجت من الحكومة، لهو دليل على ان خيوط السلطة اعمق من ان تهزها حكومة اكثرية، لن تتجرأ على المسّ بهذا التحالف العميق المستمر، وجوهره الفساد وتخففاً المحاصصة.
يبقى ان ما تقترحه القوى المعارضة لصندوق النقد الدولي، هو استمرار الواقع الذي سبب الانهيار، وازاء هذه الحقيقة التي تؤكدها مرحلة ما بعد مقررات مؤتمر سيدر، فان لبنان يتجه الى مزيد من الانهيارات.
من هنا فان التذرع بأن الخصخصة هي مضرة للبنان، فان الكارثة هي استمرار الوضع القائم، والقول ان القطاع العام يجب ان يبقى ملاذاً للمحسوبيات والتوظيف غير المجدي، هو كارثة تتفوق على اي اجراء يحدّ من اعداد الموظفين مهما كانت نتائجه الاجتماعية. بالطبع ان تذهب السلطة الى خيار الضرائب غير المباشرة على المواد الاساسية، لحماية مزارعها في الدولة، هو الذي يغري اي سلطة لا سياسة اقتصادية او اجتماعية لها، وبالتالي فان السلطة الحاكمة اليوم كما عادتها ستقدم الشعب كوليمة لاجراءات صندوق النقد، لكن ما تشير اليه الوقائع في تجارب سابقة لهذا الصندوق، ان دخول الصندوق ليس كالخروج منه، وهي عملية لا مفر منها طالما أن السلطة القائمة في لبنان ما زالت تقترح علينا نهبنا فقط وإفساد دولتنا والانهيار الكامل.
ازمة لبنان اليوم أنها باسم دولة المقاومة تم تجويف الدولة وانهت السلطة كل مقومات المقاومة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وباسم الدفاع عن كل شعوب الأرض اصبح الشعب اللبناني على قارعة الشعوب في دولة متهالكة.