Site icon IMLebanon

الاتفاق مع الصندوق «بالون هيليوم» فمتى يسقط؟

 

فرض الاتفاق الذي أُعلن عنه بين لبنان وصندوق النقد الدولي مساء أمس الاول من قصر بعبدا إعادة نظر لا بدّ منها في آلية التعاطي مع الأزمة التي تعصف بالبلاد. فما كشفه الاتفاق من تحدّيات تعهّد بها أركان السلطة، يدفع الى استكشاف قدرتهم على تنفيذها، مخافة ان يتحول هذا الإنجاز «بالون هيليوم» ارتفع فجأة في سماء الأزمة من دون القدرة على التحكّم به أو توقّع طريقة سقوطه.

بعيداً من المناكفات السياسية التي تقود إلى قراءة أي حدث على الساحة اللبنانية بعيون مختلفة ومتناقضة، فالانقسامات بين اللبنانيين ما زالت تتحكّم بكثير مما هو مطروح في المجالات كافة، بما فيها تلك القضايا التي تحتاج إلى حلول علمية وعملية ومخارج إجبارية لا يمكن تجاهل حاجتها الى التفاهم والتعاون بين الجميع دون استثناء. وفي هذه الأجواء جاء الإعلان المفاجئ أمس الاول عن الاتفاق الذي توصلت إليه السلطات اللبنانية، وفريق صندوق النقد الدولي «على مستوى طاقم العمل» – وفق التوصيف الذي اعتمده الصندوق في بيانه الرسمي – الذي تمّ التوصل اليه في نهاية المهمّة التي قامت بها بعثته في زيارته الأخيرة لبيروت في الفترة الممتدة من 28 آذار إلى 7 نيسان بقيادة السيد إرنستو راميريز ريغو، لمناقشة دعم صندوق النقد الدولي لبنان والسلطات وبرنامج الإصلاح الاقتصادي.

 

تحت هذه العناوين التي أطلقها وفد الصندوق، تحدث البيان الرسمي عن النية بالدعم المسبق «لسياسات اقتصادية شاملة يمكن دعمها لفترة 46 شهراً»، كاشفاً عن طلب لبنان من الصندوق الحصول على 2.173.9 مليون وحدة حقوق سحب خاصة، اي ما يعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي. في مقابل مجموعة التعهدات والالتزامات التي جدّد المسؤولون اللبنانيون الالتزام بها هذه المرة، قبل الحديث عن أي مرحلة متقدّمة تقود الى التفاهم المطلوب بين لبنان وإدارة الصندوق بنحو نهائي، وما يستلزمه ذلك من وقت وجهد مطلوبين.

 

وأمام مجموعة الاستحقاقات الدستورية التي تنتظرها البلاد، وتلك التي دخلت مدارها، يبدو الحديث عن اي تقدّم، كان وسيبقى رهناً بقدرة لبنان على إدارة المرحلة المقبلة وتوفير الأجواء التي تسمح بترجمة الخطوات التي تضمن بلوغ هذه المرحلة المتقدّمة، بما تفرضه من إجراءات وقرارات صعبة التي تعهّدوا بها، وسط شكوك كبيرة ما زالت عالقة في الأذهان وليس من السهل تجاوزها او عدم احتسابها، فالتجارب السابقة لم تُنس بعد.

 

وعليه، تعترف مراجع مالية واقتصادية، انّه لا يمكن الاستهانة بما تحقق امس الاول، فبعيداً من الشكل الذي حرص لبنان على تقديمه للاتفاق والإعلان عنه من قصر بعبدا، ترجمة لما تقول به المادة 53 من الدستور التي أعطت رئيس الجمهورية صلاحية إبرام أي اتفاق بين لبنان وأي جهة دولية حكومية أم أممية، فإنّ الشكل لا يكفي، وأنّ المهم أن يفي لبنان بالالتزامات التي قطعها على نفسه.

 

وتضيف هذه المراجع، لتكشف، انّ وفد الصندوق كان يأمل منذ وصوله الى بيروت في ألّا تنتهي زيارته الميدانية الثالثة الى بيروت من دون ان يحمل معه شيئاً ما الى إدارته في نيويورك. ولذلك كان حريصاً على توثيق التفاهم بالحجم الذي يستحقه، من دون النظر الى مغالاة اللبنانيين – وتحديداً اهل السلطة الساعين الى أي انجاز ولو كان وهمياً – قبيل دخول البلاد مدار المرحلة الاخيرة من الانتخابات النيابية عند فتح صناديق الاقتراع في 15 ايار المقبل، على وقع أشرس الحملات الانتخابية التي انخرطت فيها رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب، بما تمثلان في مجريات العملية الانتخابية، فيما نأى رئيس الحكومة بنفسه عن اللعبة الانتخابية، آملا في أن يبقى مطروحاً على رأس لائحة المكلّفين بتشكيل الحكومة المقبلة فور تسلّم المجلس النيابي الجديد مهماته الدستورية في 21 ايار المقبل.

 

على هذه الخلفيات، توقفت المراجع الاقتصادية والنقدية المراقبة عند اعتبار انّ ما حصل أمس الاول قد يكون بمضمونه تكريساً نهائياً للعناوين التي تشكّل «خطة النهوض للتعافي والإنقاذ»، وكبديل نهائي وحتمي للمشاريع السابقة، بما قالت به وما أثارته من ردّات فعل متناقضة، ورسم الخريطة النهائية لما هو مطلوب من لبنان على مختلف الأصعدة الاقتصادية والمالية والنقدية، بما فيها ما هو مطلوب من التدقيق الجنائي وقانون «الكابيتال كونترول» وتحديد الخسائر وطريقة توزيعها بعد هيكلة المصارف ومعالجة الديون الخارجية، عدا عن الإجراءات المطلوبة في القطاعات الحيوية التي تسببت بتكبير حجم الدين العام وكلفته، نتيجة ما استنزفته خطط الطاقة ومثيلاتها الخدماتية من المال العام.

 

وبعيدا من أي تفسير، يمكن ان ينشأ لاحقاً ممن تجاهلتهم التفاهمات التي تحققت. فقد قال الصندوق كلمته في بيانه المفصّل عن الاتفاق، بما ينهي النقاش العقيم القائم. فهو وضع وصفاً دقيقاً لحجم الإنكماش الاقتصادي الدراماتيكي والزيادة الكبيرة في معدلات الفقر والبطالة والهجرة. عدا عن اعتباره انّ الأزمة التي يعيشها لبنان هي مظهر من مظاهر نقاط الضعف العميقة والمستمرة التي نتجت على مدى سنوات عدة من اختلال السياسات الاقتصادية الكلية، والتي تغذّت على العجز التوأم المالي الداخلي والخارجي، وعلى دعم مبالغ فيه لسعر الصرف لسنوات عدة وتضخيم القطاع المالي. لافتاً الى اقتران ذلك بمشكلات عدة في المساءلة والشفافية المفقودتين والنقص في الإصلاحات الهيكلية. محدّداً تاريخ بدء المؤشرات التي قادت إليها، بما ظهر في أواخر عام 2019 مع تسارع خروج الرساميل، والتخلّف عن سداد الديون السيادية في 9 آذار 2020، وما تلاه من ركود عميق، وتراجع دراماتيكي في قيمة العملة اللبنانية.

 

ولم ينس بيان الصندوق الإشارة الى التضخم، وتفاقم الأزمة بسبب تداعيات جائحة «كورونا»، وما خلّفه تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وصولاً الى تردّدات الأزمات الدولية التي بلغت ذروتها بانفجار الوضع في شرق أوروبا نتيجة الحرب في أوكرانيا، والتي رفعت من نسبة الضغوط على الحسابات الجارية وعلى حجم التضخم مع انهيار الخدمات وإمدادات الغذاء والوقود، والتي انعكست تدهوراً في الاوضاع المعيشية للبنانيين، ولا سيما المعرّضين للفقر والجوع والمجتمعات المضيفة للنازحين السوريين، في ظل فقدان كل ما يؤدي الى ما يُسمّى بشبكة الحماية الاجتماعية المفقودة.

 

على هذه القواعد، وبناءً على المؤشرات الواضحة التي لم يعد يرقى اليها الشك، فإنّ هذه المراجع المعنية تأمل وترغب في ان تتساقط العوامل المؤدية الى «فركشة» ما رسمه الاتفاق وإعاقة تنفيذ خريطة الطريق التي رسمها. وهي لم ترَ في أجواء الترحيب التي عبّر عنها رؤساء السلطات الدستورية الثلاثة، ما يكفي للتفاؤل بما هو متوقع. فالورشة المطلوبة يجب ان تتجاهل العوامل الداخلية ووقف كل أشكال الاستثمار السياسي والانتخابي والمناطقي والطائفي. فالأزمة لم توفر اياً منهم، وأنّ الإقلاع عن سياسات الماضي والاصطفافات الحادة هي من الخطوات الاولى المطلوبة لئلا يتحول «الاتفاق ـ الإنجاز» «بالون هيليوم» ارتفع فجأة وبسرعة في سماء الأزمة الملبّدة بالغيوم السوداء منعاً لعدم القدرة على التحكّم بمساره، فيسقط في اي وقت وتنتهي معه بشائر الإنفراج لمصلحة الانفجار.