كَثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن تدخل عسكري روسي وإيراني لمؤازرة الجيش السوري في معركته ضد الإرهاب.
الأمر ليس جديداً وطارئاً ومستجداً لدى الروس والإيرانيين. فالدولتان وقفتا مع سوريا منذ بداية الأزمة وعملتا معاً للَجم اندفاعة الجهات المتآمرة لإسقاط الدولة السورية، وشكّلتا مظلة دولية وإقليمية لتفادي تكرار سيناريو ليبيا، كما قدّمتا كل أشكال الدعم لمواصلة الصمود.
ما فعلته روسيا في مجلس الأمن حين استخدمت حق النقض «الفيتو» مرتين، مذ بدأت الأزمة السورية، كان أهم بأشواط ممّا تفعله اليوم من حشد عسكري.
ففي الخامس من تشرين الأول عام 2011، رفضت كل من روسيا والصين مشروع قرار يهدف إلى إدانة ما يسمّى بـ «الانتهاكات الخطيرة والنظامية المستمرة لحقوق الإنسان من قبل السلطات السورية»، مستخدمين الفيتو المخوّل لهما في مجلس الأمن الدولي الذي يضم 15 عضواً.
وقتذاك، اعتبرت موسكو، في تصريحات لمندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، أنّ القرار يشكل منعطفاً اتهامياً أحادياً ضد دمشق، مشيرةً إلى «أنه من غير المقبول استخدام التهديد بفرض عقوبات كإنذار أخير للسلطات السورية».
الخطوة عينها اتّبعها «الدب الروسي» في الشهر الثاني من العام 2012، حيث أحبط مشروع قرار يدين ما وصفته الدول الأوروبية والجامعة العربية بـ«القمع في سوريا»، عبر استخدامه والصين حق الفيتو للمرة الثانية في غضون أشهر معدودة.
التدخل الروسي لم يكن في شأنٍ داخليٍّ على الإطلاق. فالمعركة في سوريا ليست داخلية – محلية بل هي حرب كونية مركّبة، تزامنت مع فترة عصيبة كانت تعيشها المنطقة في ذروة فورة الهجمة الأميركية – الغربية على الشرق الأوسط، وما ترافق من سقوط أنظمة عربية كبيرة كتونس ومصر وليبيا. آنذاك، بدأت تحركات مسلحة ومجموعات إرهابية بالتغلغل في الجسم السوري من كل حدب وصوب.
مجموعاتٌ وفّرت لها الدول الداعمة كل مستلزمات العدوان والتآمر، من فتح حدود وتدفق مسلحين وإقامة معسكرات تدريب، وصولاً إلى تأمين المال والسلاح وحشد رأي عام عربي وغربي لإسقاط النظام. ناهيك عن المساندة العسكرية والاستخباراتية من رصد وتشويش، والمشاركة المباشرة عبر سلاح الجو الإسرائيلي على امتداد جبهة حوران وأرياف دمشق حين يستدعي الأمر. إضافةً إلى مساندة المدفعية التركية للمسلحين على طول جبهة الشمال من ريف حلب مروراً بإدلب حتى ريف اللاذقية.
أثناء ذلك، اكتفت روسيا بالدعم اللوجستي والسياسي لاحتواء فورة الدول الغربية، واستمرت على هذا المنوال لحين حصول التبدلات الخارجية. بموازاة ذلك، كانت القوات المسلحة السورية تعمل بوتيرة تناسب مقتضيات المراحل وظروف المنطقة وشكل المعركة، ضمن استراتيجية دفاعية.
إدارة المراحل بالتدرج
المجريات الميدانية في تلك الفترة لم تكن منفصلة عن المسارات السياسية، بل كانت نتاجاً للاستعصاء السياسي والتدخل الخارجي. لذلك شهدت سوريا سنوات خمس معقدة وحافلة بالمواجهات الدامية.
الأمر الذي تطلّب إدارة المراحل بالتدرج وخلق التوازن ما بين أسلوب الاحتواء من جهة، وتبادل الهجمات لإطالة المعركة كجزء من خطة استنزاف المسلحين ودول العدوان من جهة أخرى. كل ذلك بمساندة كبيرة وواضحة من روسيا التي حرصت على عدم حصول أيّ تدهور دراماتيكي للدولة السورية.
الغاية من تمرير الوقت تكمن في ضرورة انتظار التحولات والمتغيرات التي قد تتيح لموسكو التدخل في ظروف مناسبة، خصوصاً أنها حرصت على أمرين، الأول هو كيفية حماية الملف النووي الإيراني، والثاني يتضمن تأمين مستلزمات صمود دمشق.
لقد انتظرت روسيا هذه اللحظة بعد أن أخفقت أميركا والمجتمع الدولي في إيجاد حلول للتدخل في وقت يترنّح فيه العالم أمام فوضى عارمة، مع الإشارة إلى أنّ الاتحاد الاوروبي لم يتمكن حتى اللحظة من تفعيل خطة موحدة فيما يخص اللاجئين السوريين في أوروبا.
إنّ إعادة ترتيب مسرح العمليات العسكرية في سوريا ليس مستعصياً على روسيا، فهو يحتاج إلى تعزيز القدرات العسكرية وتنظيم الوحدات القتالية ليس أكثر. فالجيش السوري أثبت أنه أكثر جيوش المنطقة تماسكاً وصلابة. وبالرغم من الانتكاسات والتراجعات التي لحقت به، بقي متماسكاً – صلباً يقاتل على مساحة 185 ألف كيلومتر، في مروحة دائرية كاملة من دون كلل أو ملل طيلة خمس سنوات، وبسلاح قديم بطُل استعماله منذ السبعينات، وبأقلّ الإمكانات.
لذلك، هو لا يحتاج إلى أكثر من إعادة هيكلة، وتنظيم وتأمين سلاح حديث. فعلى سبيل المثال، إنه لا يمتلك طائرات حديثة أو مروحيات صائدة للدبابات ولا حتى مروحيات لعمليات الإنزال أو صواريخ أرض – أرض حديثة أو دبابات تملك منظومات إلكترونية لتفادي صواريخ «التاو». أجل، لقد قاتل بما توفّر له ليس إلّا. وعلى رغم ذلك، نجح في مواجهة المجموعات التكفيرية في المدن والأحياء وفي الجبال والصحراء.
لذا، يعتقد الروسي أنّ أي تحالف جدّي يحتاج إلى الجيش السوري. فأيّ قوات لا تضم جيشاً كلاسيكياً يقاتل على الأرض، لن تكون ناجحة. الغارات الجوية لوحدها أثبتت فشلاً وإخفاقاً ذريعاً ولم تكن فعّالة.
لا ريب أنّ روسيا حاولت عبر أعوام الأزمة خلق حلول سياسية، وسَعت إلى بلورة إطار عام يجمع الدولة السورية والمعارضات. إلّا أنّ تلك المحاولات واجهتها حملات تصعيدية على كافة جبهات القتال. وقد عملت روسيا مؤخراً على إنضاج مبادرة «موسكو 2»، لكنّ دول العدوان قامت بدعم الإرهابيين لشنّ عمليات عسكرية واسعة في إدلب ودرعا لنسف مساعي موسكو.
إقامة معسكرات
ليس هذا فحسب، بل إنّ الشمال السوري يشهد إقامة معسكرات برعاية تركيّة لتدريب آلاف المقاتلين القادمين من جمهوريات آسيا الوسطى (أوزبكستان، كازاخستان، طاجيكستان، قرغيزستان، تركمانستان) التي كانت، ولعقود طويلة من الزمن، جزءاً من الإتحاد السوفياتي السابق.
من هنا، بات الروس يشعرون بضرورة كسر التوازن العسكري في الميدان من جهة، ويلتمسون تهديد أمنهم القومي ومصالحهم الاستراتيجية من جهة ثانية. ما يضعهم أمام خيار واحد يتجسّد بتحديث الجيش السوري ودعمه عسكرياً.
نتيجةً لذلك، ها هي موسكو تؤكد بعد سلسلة غاراتها الجوية استعدادها لدراسة إرسال قوات برية إلى سوريا في حال تسلمت نداء سورياً بهذا الشأن، في وقت تنطلق تصريحات من دمشق تفيد بإمكانية الطلب من القوات الروسية القتال إلى جانبها إذا ما دعت الحاجة.
ولكن القوات الروسية باتت موجودة بالفعل على الأراضي السورية وانخرطت في القتال الدائر، ذلك أنّ تصريحات سياسية من هذا النوع دائماً ما تخرج إلى العلن بعد الانتهاء من تطبيقها على الأرض.
إذاً، نفذ صبر الروس بعد اصطدام مساعيهم الحثيثة لإنتاج حلول سياسية في سوريا بأجنداتٍ خارجية. والتناغم الروسي – السوري سياسياً بدأ ينعكس على الشراكة العسكرية التي انطلقت جوياً، وهو مرشّح أن ينتقل ميدانياً من أجل حسم المعركة العسكرية. فحذار من «القيصر» إذا غضب.