IMLebanon

السلطة تتقدم لاستعادة مواقعها… والانتفاضة ترد بحذر

 

 

الآلية التي يجري بها تداول أسماء المرشحين لتولي رئاسة مجلس الوزراء في لبنان وتقاسم الحصص بين القوى التقليدية، تساهم في رسم صورة موازين القوى التي وصلت إليها الانتفاضة، بعد شهر ونيف على انطلاقها، ومحاولات إجهاضها وتطويقها على يد السلطة.

الملاحظة الأولى في هذا السياق أن التحالف الحاكم، وبغض النظر عن الخلافات بين أطرافه، استوعب صدمة المرحلة الأولى من الثورة، وعاد إلى «أعماله كالمعتاد» من اجتماعات للجان النيابية، وتمرير مشروعات قوانين تعبق منها رائحة الفساد والزبائنية المعتادة. في الوقت ذاته، استأنفت القوى المنضوية في التحالف الحاكم مساعيها لاستعادة مواقعها التي خسرتها لمصلحة المنتفضين؛ خصوصاً موقع الحكومة التي أسقطها المتظاهرون في الشارع.

المشاورات واللقاءات – المنافية للدستور مثلما بات واضحاً – تذهب في اتجاه تأليف حكومة بمن حضر، وتمثل جميع أطراف الحكومة السابقة، باستثناء حزب «القوات اللبنانية»، مع إضافة أسماء بعض الانتهازيين والطفيليين الذين ستعينهم السلطة ممثلين عن «الحراك». وبذلك يستعيد أطراف التسوية الرئاسية التي جاءت بميشال عون رئيساً للجمهورية مواقعهم السابقة.

بيد أن الحكومة التي ستواجه اختبارات قاسية في الشارع، بدأت نذرها مع التظاهرات الليلية ضد طرح اسم الرئيس المقترح، يوم الثلاثاء، الثالث من ديسمبر (كانون الأول) (وهو الشخص الذي لم يكلف رسمياً)، لا تملك خطة عمل ولا رؤية حقيقية لوقف انحدار لبنان في هوة الكارثة الاقتصادية. ويصعب تصديق أن علاج المشكلة المعيشية التي تتسع كل يوم رقعة المتضررين منها، ممكن من خلال بعض الإجراءات الإدارية والبهلوانية التي قد تتخذها حكومة ستظل شرعيتها مشكوكاً فيها وستظل تحت الرقابة الدولية اللصيقة بسبب انعدام الثقة الداخلية والخارجية فيها.

هول الكارثة الاقتصادية يفوق كثيراً في أبعاده وتداعياته أي مقاربة ستسعى الحكومة المتصورة إلى تبنيها. يترك ذلك لبنان أمام خيارات قليلة، منها الاستنجاد بالمؤسسات الأممية من صندوق النقد والبنك الدوليين لوضع خطط إنقاذية. ولفهم خطورة الأزمة، يكفي التذكير بأن عدداً من الهيئات الإنسانية العالمية باشر التحضير لإرسال حصص غذائية إلى العائلات التي انهارت مقومات تحصيلها لقوت يومها. حالات النقص في الطعام وتفشي البطالة على نطاقات واسعة، بدأت تطل برأسها من خلال حالة انتحار أولى سجلت في بلدة عرسال الأسبوع الماضي. والأرجح أنها ستكون مقدمة لحالات كثيرة مشابهة.

اللامبالاة الكاملة التي يظهرها السياسيون التقليديون حيال المعاناة المعيشية عند أكثرية مواطنيهم، لا تكشف فقط العزلة «المدرعة» والقوقعة المترفة التي يعيشون فيها وسط آلام من مستهم الأزمة الاقتصادية؛ بل أبعد من ذلك، تعلن عن العطب الأخلاقي الذي يجعل من طبقة فاسدة قادرة على الاستمرار في احتقار مطالب مئات الآلاف من المتظاهرين.

الملاحظة الثانية هي أن الزخم الأول للانتفاضة قد استنفد، وانتهت المرحلة العفوية الأولى، بحيث بات على التنسيق بين قوى الثورة، والعمل على صوغ أشكال جديدة للتحرك أن يحتلا المقام الأول. ولا جدال في أن الهجمات القاسية التي شنتها بعض أطراف السلطة؛ خصوصاً «الثنائي الشيعي» على الانتفاضة، قد أرغمتها على التراجع خطوات عدة، سواء في الخطاب أو الممارسة الثوريين. فقد فرضت الثورة المضادة خفض سقف التحرك الميداني، وبات من شبه الممنوع إقفال الطرقات أو تناول السياسيين بالأسماء، على النحو الذي ساد في أيام الانتفاضة الأولى.

التراجع التكتيكي، إذا جاز القول، أملته الخشية من اندفاع الثورة المضادة في استخدام السلاح الطائفي، وإقفال مناطق واسعة أمام تحرك المنتفضين، والتلويح بالعنف المسلح، وإحياء أجواء الحرب الأهلية. إحباط خطط تطويق الثورة لم يأت دون ثمن، تمثل في وضعها في موقف دفاعي؛ بل حمل بعض الناشطين على الامتناع عن الظهور وإعلان مواقفهم، إدراكاً منهم لما يمكن أن ينالهم من أذى لن يتورع عنه فريق السلطة.

كما أن الضغوط التي مارستها السلطة على وسائل الإعلام للامتناع عن تغطية فعاليات الانتفاضة، واستضافة مؤيدي الحكم على مدى أيام طويلة، تندرج في سياق التنافس على احتلال الفضاء العام، ومنع الثورة من نشر آرائها وأفكارها. بديهي أن «الضيوف» المفروضين على محطات التلفزة ينتمون إلى فريق معين لا مصلحة له في أي تغيير ذي مغزى على الواقع القائم، وأن جل ما يكررونه كل يوم هو سلسلة من «الحقائق» التي لم تعد تعني شيئاً للمواطن الباحث عن حقوق مسلوبة. مع ذلك، لا تملك هذه السلطة غير تكرار الكلام المستهلك من أصحاب الوجوه الباهتة ذاتها.

الملاحظة الثالثة هي أن عمق الأزمة السياسية والاقتصادية، يكفي لإنعاش الثورة مهما تراجعت. وليس استخدام كلمة ثورة بمبالغة، ذلك أن ما يجري قد ينقل لبنان من نسق إلى نسق أرقى، أو قد يلقي به في بؤرة الأفاعي.