تعاني مختلف الاطراف السياسية من «هندسة» اللوائح الانتخابية باعتبارها المرحلة الاصعب المرتبطة بتحديد التحالفات، وبانتظار ان تتبلور الصيغ النهائية لخارطة القوى المتنافسة، ثمة تهويل مقصود ومفتعل من خلال الحديث عن «هيمنة» مفترضة لحزب الله على المجلس النيابي المقبل، وعن تدخلات خارجية لتأجيل الاستحقاق ربطا بهذه الاستنتاجات… فهل التهويل في مكانه؟ وهل نسف الانتخابات هو الحل؟ ولماذا لا يرغب حزب الله بتقديم تطمينات لاحد؟
اوساط مقربة من الحزب تؤكد ان هذه «الضجة» المفتعلة تعود الى اسباب مختلفة بعضها يرتبط بمحاولة البعض في 14 آذار تحفيز الدول الاقليمية والدولية على التدخل بفعالية اكبر عبر تمويل الانتخابات، والضغط على اطراف عدة وعلى راسها تيار المستقبل للانضباط في تحالفاته وعدم الخروج عن المهمة الاساسية المتمثلة باضعاف حزب الله ومنعه من الحصول مع حلفائه على اكثرية مريحة في المجلس النيابي القادم… لكن لا احد من هؤلاء يفترض ان التاجيل سيحل المشكلة…
وتلفت تلك الاوساط، الى ان الانتصار المرتقب «للثنائي الشيعي» في الاستحقاق الانتخابي المقبل سيكون انتصارا معنويا لن يترجم عمليا في السياسات الاستراتيجية ولن يبدل من الامور الوطنية شيئاً يذكر، فحزب الله لا يحتاج الى كتلة نيابية وازنة لفرض اي من سياساته على الافرقاء الاخرين، وما يملكه من فائض قوة اليوم يسمح له بتجاوز التفاهمات القائمة على السياسات العامة في الدولة لو اراد ذلك، فعدد النواب داخل المجلس ليس معيارا اساسيا في لبنان، وقد اثبتت التجارب ان التوازنات تتحدد خارج اطار المؤسسات الدستورية، والدليل على ذلك ان فوز قوى 14 آذار في انتخابات 2009 لم يمنحها القدرة على ادارة السلطة في البلاد، وهذا ما يؤكده ايضا، زهد حزب الله في تمثيله الوزاري على مدى الحكومات المتعاقبة. ولذلك فان المبالغة في الكلام عن انعكاس سلبي لنتائج الانتخابات على «خصوم» الحزب، له اهداف مغايرة تتعلق بالاسباب الانفة الذكر، مع العلم ان بعض الاطراف ومنهم القوات اللبنانية ستنجح في زيادة ثقلها التمثيلي، وهو امر سيصرف داخليا في اطار المناكفات السياسية مع اخصامها المسيحيين، وزيادة الحصص في سياق تقاسم «كعكعة» الدولة، ولا علاقة للامر باي صراع ايديولوجي او استراتيجي مع الحزب.
ووفقا لتلك الاوساط، فان حزب الله يرى في الاستحقاق الانتخابي فرصة لتظهير ثقة جمهوره بخيارات المقاومة، وخيارات الحزب السياسية والعسكرية التي توسعت خلال السنوات القليلة الماضية الى خارج الحدود. فمنذ العام 2009 تغيرت الظروف، واستجدت عناوين وتحديات كبيرة، راهن خصوم الحزب على اضعافه ضمن بيئته من خلال التركيز على ما اعتبروه «فاتورة» ضخمة بشرية ومادية، دفعها الحزب في سوريا، وكذلك كان الرهان على محاولة تحميله مسؤولية نقل المعركة من الخارج الى الساحة اللبنانية، وكان الامل في سقوط النظام السوري لتحجيم دوره، لكن كل هذا لم يحصل، وقد اعطى نجاح الحزب في استئصال المجموعات الارهابية من الحدود الشرقية دفعا جديدا لمسيرته الداخلية تضاف الى نجاحه الاقليمي مع الحلفاء في اسقاط دولة «داعش» في العراق وسوريا، ومحاصرة «جبهة النصرة» تمهيدا للقضاء عليها… والى جانب تظهير ثقة بيئته، يضع حزب الله ضمن اولوياته استعادة حلفاء كان قد خسرهم بفعل قانون الستين، وتبدو الفرصة سانحة الان لبناء شبكة كبيرة متعددة الاطياف السياسية والطائفية داخل البرلمان، تحمل في مضامينها «رسائل» بالغة الدلالة الى الخارج قبل الداخل، بان محاولة عزل الحزب تبقى مجرد وهم بعيد عن الواقع.
وبحسب تلك الاوساط، لا يحتاج حزب الله الى طمأنة احد، وقد حاول بعض الديبلوماسيين الاوروبيين الحصول على اجوبة محددة في هذا السياق، لكن الحزب لم يكن معنيا بتقديم اجابات تزيل الهواجس المفتعلة لدى البعض، فالتجربة تعطي اجوبة واضحة لمن يريد حقا الحصول عليها وليس «المزايدة» او «المناكفة»، فقوى 14 آذار عندما شعرت بعد عام 2005 بفائض من القوة حاولت محاصرته والغائه واكتشفت مدى «الخطيئة» التي ارتكبتها، ويعرف قادتها جيدا، انه عندما عادت وانقلبت موازين القوة في لبنان والمنطقة لصالح محور المقاومة لم يبادر حزب الله الى معاملتهم بالمثل، وحتى الان لا يزال يراعي التوازنات المحلية الدقيقة رغبة منه في الحفاظ على الاستقرار الداخلي… ومن يدلل على عكس ذلك بالقول انه استطاع فرض انتخاب الرئيس ميشال عون رئيسا للجمهورية، فكلامه مردود لان من عمل على تأخير انجاز هذا الاستحقاق هو الفريق الاخر الذي ظل يكابر بدعم من الرعاة الاقليميين والدوليين، وحاولوا خلال عامين ونصف العام «السطو» على حقوق مكتسبة للحزب وحلفائه المسيحيين بالحصول على موقع الرئاسة مقابل وصول قوى14 آذار الى رئاسة الحكومة، وما تحقق كان الانصاف بعينه وليس تجاوزا لحقوق احد.
وانطلاقا من تلك المعطيات، تجزم تلك الاوساط بان الحديث عن محاولات البعض في الخارج تعطيل الاستحقاق الانتخابي، تبقى مجرد تمنيات لا يمكن ترجمتها على ارض الواقع، فثمة ارادة دولية واسعة لترسيخ الاستقرار على الساحة اللبنانية، وهي تحاصر هؤلاء، وقد تجلى ذلك خلال احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية وما تلاها من تدخلات وضغوط كبيرة اثمرت في اجبار الرياض على التخلي عن «مغامرتها»، وقد توصل «خصوم» حزب الله الى قناعة راسخة بعدم امكانية تغيير الوقائع، ولو كان تأجيل الاستحقاق الانتخابي سيغير المشهد السياسي العام في البلاد لكانت اقدمت على تلك الخطوة، لكن مقاربة الخيارات وموازنتها افضت الى خلاصة واضحة مفادها ان ضرب العملية الديموقراطية سيؤدي الى فوضى غير محسوبة النتائج، اما اجراء الانتخابات في موعدها فسبيقي الامور منضبطة على ايقاع استقرار محكوم بتوازنات يحترمها حزب الله ولا يريد خرقها لانه ببساطة يحتاج الى الاستقرار اكثر من غيره…
ولذلك ثمة ضرورة لعدم تعريض لبنان لهزات مفتعلة وسيكون الاستحقاق الانتخابي محطة دالة على انتظام القانون العام في البلاد، ليبقى الصراع السياسي محصوراً داخل المؤسسات، اما العناوين الكبرى المرتبطة بسلاح حزب الله، وقرارات السلم والحرب، ومشاركة الحزب في المواجهة المفتوحة في المنطقة، فمسألة تبقى اكبر من قدرة اللبنانيين على حلها، ومن السذاجة اعتقاد البعض ان حجم كتلة نيابية من هنا او هناك، سيكون له تأثير في هذه القضايا التي يبقى مكان الفصل فيها موازين القوى الاقليمية والدولية في صراع ممتد على «رقعة شطرنج» تتجاوز حدود لبنان ودوره الى ما هو أعمق واكثر اتساعا مما يعتقد البعض… ولذلك يحرص حزب الله على البقاء خارج دائرة المناكفات، والانتخابات النيابية بقانونها الجديد لن تكون بالنسبة له اكثر من محطة لتوسيع دائرة المشاركة الداخلية، عبر تحجيم بعض القوى السياسية التي «انتفخت» بفضل قانون غير عادل تسبب باقصاء الكثيرين، وهذا لا يمنع من استثمار النتائج «دعائيا» «ومعنويا» لتوجيه «رسائل» بالغة الدلالة الى كل من اراد اضعافه، دون ان يكون للامر اي انعكاسات سلبية على الساحة الداخلية.