IMLebanon

الانعكاسات الجيوسياسيَّة لغزوة أوكرانيا

 

يبدو أن الأميركيين، كانوا على علمٍ مُسبَق منذ أشهرٍ بنوايا رئيس الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين بغزو أكرانيا، وربما كانوا يتوقَّعون ذلك منذ ما يزيد على السَّنة، ويُردُّ ذلك لما كَشفتهُ المعاركُ لغايَةِ الآن من فَشلِ المُخطَّطاتِ الروسيَّةِ الهُجوميَّة، وصُمودِ أكرانيا لغايَةِ اليومِ وإفشالِها بتكتيكاتِها القتاليَّةِ لاستراتيحيَّةِِ بوتين الانقضاضيَّة التي ظن أنه اختار الوقت المناسبِ لتنفيذها بانشغال أميركا بمناوشاتها السياسية- الاقتصاديَّةِ مع الصين، وترؤسِ بلاده لمجلس الأمن، واستيعابها للهَجماتِ الشَّرِسَةِ التي تُشنُّ عليها من أكثرِ من جَبهةٍ ومَكانٍ بأخطرِ الأسلِحَةِ من مُدرَّعاتٍ وصَواريخَ بالستيَّةٍ وطائراتٍ حربيَّةٍ نفاثةِ أو مُسيرة، والتي لم تَشهد البشريَّةُ بضَراوتِها من قبلُ حتى خِلالَ الحَربين العالميتينِ اللتين وقَعتا في النصف الأولِ من القرنِ العِشرين.

 

كُلُّ المؤشِّراتِ بما فيها تعثُّرُالهُجومِ الذي أرادهُ بوتين أن يكون خاطفا ومروِّعا للقيادَةِ السِّياسِيَّةِ في أوكرانيا، بالإضافَةِ إلى حَجمِ الخَسائرِ غير المُتوقَّعِ، وافتقادِ عُنصُرِ المُفاجأةِ تُشيرُ إلى أن الأميركيين كانوا على اطِّلاعٍ مُخابراتي على تَحضيراتِ الجيشِ الرُّوسي، بما في ذلك توقيتُ الهُجومِ، ونقلوا ما يَكفي من مَعلوماتٍ بهذا الصَّددِ إلى القِيادَةِ الأوكرانيَّةِ التي يبدو أنها استَعدَّت جَيِّدا للحربِ التي لم تتفاجأ بها، وإن لم تكُن ترغَبُ بحُصولها.

 

لقد نجَحَت الولاياتُ المُتَّحدَةُ ومن خلفَها دولُ الناتو ومنذُ اليومِ التالي لانهيارِ الاتِّحادِ السَّوفييتي في تَضييقِ الخِناقِ على روسيا. ولم تَنجَحَ مُحاولاتُ قيصرِ القرنِ الواحدِ  والعشرين (الرجل الحَديدي)، في التَّخفيفِ من حِدَّةِ الخِناقِ رَغم كل الجُهود التي بذلَها لوراثَةِ الاتِّحادِ السُّوفييتي جيوسياسيَّا واستِعادَةِ الهيبةِ إلى الاتِّحادِ الروسي من خِلالِ تَعزيزِ مكانتهِ على السَّاحةِ الدَّوليَّةِ، وتَطويرِ أسلحتِهِ الاستراتيجيَّة وبخاصَّةٍ الصَّواريخُ العابرةُ للقاراتِ والأسلِحةِ النوويِّة ومشتقاتِها الهيدروجينيَّةِ ونُظرائها التِّقنيِّةِ الحَراريَّةِ ورُبما الكهرومغناطيسيَّة والليزرية …الخ.

 

أدَّى تماهي حِلفِ الناتو ومن خلفَهُ أميركا في العبثِ مع الدب الروسي وشد الخناقِ عليه إلى إخراجِ بوتين عن طَوعِهِ واتِّخاذِ قرارِهِ المَدروسِ، ولكنه الخاطِىء،باجتياحِ أوكرانيا، ظَنًّا منه ان باستطاعَتِهِ خلالَ ساعاتٍ مَعدوداتٍ وربَّما يوم او يومين تَقويضَ البُنى التَّحتيَّةِ العسكريَّةِ الأوكرانيَّة، ودَفعِ مَسؤوليها للإذعانِ لشروطِه، او طلبِ الاستِسلامِ  والعودةِ عن توجُّهاتهم الغربيَّةِ أو قلبِ النِّظامِ بأقل تقديرٍ، بتحريضِ كبارِ القادَةِ العَسكريين للانقلابِ على الرَّئيسِ فولوديمير زيلسنكي، وإبرام اتفاقيَّاتٍ ثنائية مُذعنة تُعيدُ أوكرانيا إلى الحَظيرَةِ الرُّوسِيَّة، ويكونُ غزوها بمثابَةٍ عِبرةٍ لباقي الدُّولِ التي كانت مُنضويةً ضِمن منظومَةِ الاتحاد السُّوفييتي،  ورُبما لدُولِ أوربا الشَّرقيَّةِ لكبحِ اندفاعها في المُضي قُدُما بالانضمامِ إلى حِلفِ الناتو وإدارَةِ الظَّهر لروسيا أو استِفزازها.

 

فاجأ صُمودُ الأوكرانيين حتى دولُ الغَرب التي تُشَجِّعهم، ودَفعوهُم للإسراعِ في توفيرِ الدَّعم العَسكري واللوجستي والمعنوي لهم، بعد أن كانوا قد نصحوا الرئيس الأوكراني بمُغادرة بلادهِ ورفضِهِ دعوتِهِم هذه، بل عابَ عليهِم لوقوفِهِم موقِفِ المُتفرِّج، لعِلَّةِ عدَمِ الرَّغبَةِ في توريطِ العالم بحربٍ نوويةٍ مُدمِّرَة، مُتذرِّعينَ بأن أكرانيا ليست بعضٍو في حلف النَّاتو.

 

نَجَحَت أميركا في جَرِّ الدِّبِ الروسي الهائج إلى مُستنقَعٍ أوكرانيا، الذي يبدو أنه سيطولُ مُكوثُهُ فيه مُتخبِّطا بوحولِه، ولن يَخرجَ منه إلا مُنهكا خائرَ القِوى مَمروغ الأنفع، ومُقلَّمَ المخالِب، مَكسورَ الخاطِرِ خالي اليَدينِ من أيَّةِ مَكاسِب، بل مَغزولا دوليَّا ومُثقلا بحزمَةٍ من العُقوباتِ الاقتِصادِيَّة والماليَّةِ، وبخَيبةِ أملٍ من قُدراتِ جَيشهِ القتاليَّةِ وفعاليَّةِ أسلحَتِه الرَّدعيَّةِ.

 

لقد خَسِرت روسيا الحَربَ منذُ أسبوعِها الأول، وستبقى خاسرةً لها ولو قيّد لها احتلال أكرانيا بكاملها بعد أشهُرٍ، أو قلبِ نِظامِ الحُكمِ فيها، والاتيان، بجَماعَةٍ مؤيِّدَةٍ لها على غِرارِ ما حَصلَ بالشِّيشان، لأن هذه الحرب قد تسببت بانشقاقٍ وجِرحٍ بين الشعبين لا يندمل ولو بعد مئات السنين.

 

أوكرانيا بعد روسيا من حيث الخِسارَة، وإن كانت خَسائرُها المادَّيَّةُ فظيعةٌ لكون المعركَةِ تدورُ على أراضيها، وفي أجوائها، أما رئيسُها فتوِّجَ بَطلُاً قومياً في هذه الحربِ من دون أي مُنازع.

 

أوروبا الغربيَّة بمُجملها خاسِرَةُ هي الأخرى على الأقل مَعنوياً، لأنه ثبُتَ  عَجزُها عن حمايةِ من يسعى للانضواءِ باتِّحادِها، وبدت غير قادِرةِ عن الاستِغناءِ عن دَعم اميركا لها.

 

ويلي أوروبا مُنظَّمةُ الأُممِ المُتَّحِدَةِ بدا أنها قاصرةٌ عن القيامِ بدورها، ولا يمكن التَّعويلُ عليها في الملماتِ الدَّوليَّةِ الكُبرى،.

 

الدَّولُ العَربيَّةُ للأسفِ خارِجَ إطارِ التَّقويمِ في مَجالَي الرِّبحِ والخِسارَةِ إذ لم يَعُد لديها أيُّ شيٍئ  على السَّاحتينِ الدَّوليَّةِ والإقليمِيَّةِ قابلا للتَّقويمِ لتَخسَرَه سواء مَعنويَّا أو ماديَّا، ورغمَ ذلك فإنها ستكون عُرضَةً لمَزيدٍ من التَّهميش، وإن دُعِيَت للأعراسِ الدَّوليَّةِ  فتدعى كالعيرِ لتَحملَ الأوزارِ المالِيَّةِ فَقَط.

 

وثمَّةَ خشيةٌ افتراضيَّةٌ مَشروعةٌ تتمثَّلُ في احتمالِ سعي الغَربِ لإحياءِ النزاعِ والعمليَّاتِ العسكريَّةِ مُجدَّدا في سُوريا لمشاغلةِ روسيا بها والتَّضييقِ على قُواتها في قاعِدَةِ طرطوس ومطار حميمين، كما للتَّضييق على النِّظامِ السُّوري ودفعِهِ للتَّطبيعِ مع الكِيان الإسرائيلي سَريعا.

 

أما نحن في لبنان، فعلينا التَّنبُّهُ لمغبَّةِ تَفلُّتِ الوضعِ الأمني، على أثرِ تجدُّدِ الإشتباكات في سوريا، كما علينا بالجُهوزيَّةِ لمنعِ تَصديرِ أو استِجرار الفوضى إلى بلدنا المُتهالكِ سياسيا واقتِصادِيا وماليَّا، من خِلالِ إثارةِ الفتن فيه.

 

الرابحُ الأكبرُ  في هذه الحَربِ هي  الولاياتُ المُتَّحِدَةُ الأميركيَّة كعادتها في الحروبِ الكبرى، والتي دأبت على رِعايةِ الصِّراعات، كدأبها في الحَربين العالميتين، إذ تنتظرُ إنهاك المُتحارِبين، ومن ثم تتقضُّ في الوقتِ المناسِبِ حاسِمهُ الحربَ لصالِحِها. أما إيرانُ اعتادت كما الضَّبعُ تَستغِلَّ حُروب ضراوة الاسود لتعزيزِ قُدراتِها ومَكانتها في الشرقِ الأوسَطِ وتوسيعِ رُقعَةِ تَمدُّدِها بأقلِّ الخسائر.

 

العميد المتقاعد