بينما كانت الاستعدادات الحربية الأميركية تتصاعد في المنطقة، للمعلومات التي امتلكتها الأجهزة الأميركية عن النيات الإيرانية شنّ هجمات على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها؛ قامت إيران بهجومين: الأول ضد أربع سفن بميناء الفجيرة بدولة الإمارات العربية، والثاني ضد مرفقين بتروليين سعوديين. وهذا تحدٍّ كبيرٌ للدول العربية والولايات المتحدة. وهو الأمر الذي ما كتمته إيران منذ البداية عندما قال المسؤولون الإيرانيون: إذا لم تستطع إيران تصدير بترولها، فلن يتمكَّن أحدٌ من ذلك! وكان الأميركيون قد توقعوا أن تحصل هجماتٌ إيرانية مباشرة أو بالواسطة في البحر ضد الملاحة في مضيق هرمز وخارجه، كما توقعوا أن تشكل ميليشيات الحشد الشعبي التي زوّدها الإيرانيون بالصواريخ تهديداً أيضاً. وهناك توقعاتٌ الآن أن يأتي مسؤول أميركي إلى لبنان للإنذار بوجود خطرٍ من «حزب الله»، كما ذهب بومبيو إلى العراق للغرض نفسه.
يشتبه الأميركيون إذن، وهم يحاولون إحكام الحصار على إيران، بأن الإيرانيين سيردّون بالقيام بأعمالٍ مسلَّحة: ضد وجودهم في العراق وربما في لبنان، وضد الملاحة الدولية في موانئ الخليج وممراته. إنما الذي حصل حتى الآن الإغارة على جهتين عربيتين. والمعروف منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، أنه ليست لدى إيران جهة عربية معصومة من القيام باختراقاتٍ أو عملياتٍ ضدها في سيادتها وأمنها وسلامة أراضيها ومجتمعاتها ومواطنيها. ولا فرق في ذلك بين مشرقٍ ومغرب، وإن كان تخريبها في المشرق والخليج أكثر فظاعة وظهوراً. وقد سلكت في ذلك ثلاثة مسالك: الأول، بناء جماعات من الأقليات الشيعية في سائر الدول حتى تلك التي لا يكاد يوجد فيها شيعة. وقد تنوعت المهام الموكولة إلى تلك الجماعات من اغتيال الخصوم إلى العمل ضد السلطات، ومحاولة الاستيلاء على السلطة عندما تقدّر أنَّ ذلك ممكن. وقد نشرت الأجهزة الأميركية قبل يومين صوراً لمعسكر تدريبٍ في لبنان لعناصر من لبنان والخارج يدربهم «حزب الله» و«الحرس الثوري» للقيام بأعمال تخريبية. وقد حدث ذلك في البحرين والكويت ولبنان واليمن ومصر، وربما كان الهجوم على السفن في بحر دولة الإمارات عملاً من هذا النوع قام به مخربون قادمون من إيران أو بأوامرها.
والمسلك الثاني، تجنيد جماعات سُنية بالاستهواء العقائدي أو التجاري للقيام بهجمات أو اغتيالات، أو أعمال غير مشروعة مثل الاتّجار في المخدرات أو غسل الأموال أو أعمال الجرائم والقرصنة. والظاهر البارز في ذلك المتعاقدون السياسيون أمثال «حماس» و«الجهاد الإسلامي». لكنّ هناك جماعات فلسطينية أُخرى في سوريا ولبنان لا تحمل شعارات إسلامية، وتقوم بأعمال تخريبية تُكلَّفُ بها. إنما الأكثر لفتاً للانتباه ما أمكن للأجهزة الإيرانية القيام به في العقدين الأخيرين، من توجيه وإعادة توجيه لتنظيماتٍ إرهابية مثل «القاعدة» و«داعش». ذلك معروف عن «القاعدة» منذ مدة، أما «داعش» ففي السنتين الأخيرتين بعد ازدياد التعاون بين أجهزة الاستخبارات التركية والإيرانية. والذي أراه، واستنتاجه غير صعب: أنّ الهجمات الأخيرة في السعودية وبعضها من إرهاب «داعش» و«القاعدة»، وبعضها الآخر من الإرهاب الشيعي؛ كل ذلك موجَّهٌ من إيران. تماماً مثلما وُجَّه الحوثيون (رغم انهماكهم مع الشرعية في مفاوضات في الحديدة وفي الأردن، وأنه لا مصلحة لهم في التصعيد). وتماماً مثلما وُجّه التنظيميون الغزاويون («الجهاد الإسلامي» هذه المرة) للقذف باتجاه إسرائيل، وذهب ضحيةَ ذلك أكثرُ من مائة قتيل وأدى إلى خرابٍ كبير. وعندما قلت لأحد مؤيدي «الجهاد»: إيران دفعتكم، وماذا استفدتم وقد مات مَن مات؟! فأجاب: «لكنّ هناك 6 إسرائيليين قُتلوا وآخرين جُرحوا، ونحن حلفاء إيران من زمان ولا نقاتل ونقتل إلا في فلسطين»! فالواضح أنّ تفجير السفن والضرب في السعودية والتصعيد في اليمن وإزعاج إسرائيل؛ كل ذلك من ضمن الرد الإيراني على العقوبات الأميركية. والذي قد يمتد إلى البحر الأحمر وباب المندب، وإلى مواطن أخرى على الأرض.
أما المسلك الثالث، فهو مسلك سياسي. ففي الوقت الذي تُموِّلُ فيه إيران في البلدان العربية والإسلامية التي فيها شيعة قيامَ أحزاب طائفية مسلَّحة وغير مسلَّحة، تلعب في البلدان العربية المختلطة بين السُّنة والمسيحيين أيضاً. وبالنظر إلى الضيق والضعف من جهة (في العراق وسوريا مثلاً) والانتهازية (لبنان مثلاً)؛ فإنّ هؤلاء يتحولون إلى طابورٍ يزعزع سياسات دولته بحجة دعم المقاومة أو معاداة أميركا وإسرائيل، وأحياناً من دون حجة، وهو الأمر الذي حصل في العراق وفي لبنان في الانتخابات، وفي تشكيل الحكومات، وفي السياسات. ويبدو هذا التخاذُلُ الآن في مواقف عدة دولٍ عربية وإسلامية من الهجوم على الإمارات وعلى المملكة.
منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979 صارت إيران تهديداً أكبر لأمن الدول العربية والإسلامية بسبب طموحات العقائد والنفوذ، والشحن بالأحقاد، والالتفات إلى التاريخ والمستقبل. وزادت الحربُ العراقية على إيران الأمورَ اشتعالاً. ولأنّ من طبيعة الأنظمة الدينية والعسكرية – الأمنية أن تعوّض فشلها في الداخل بسياسات خارجية عدوانية؛ فإنّ سائر دول الجوار الإيراني عانت من تدخلات إيران وأجهزتها الثورية في أنظمتها وسيادتها ودواخلها ومجتمعاتها. وقد أطمعها في بعض الدول ضعفُ إداراتها (مثل لبنان والعراق بعد الغزو الأميركي)، وقدرتُها على استهواء الشيعة في العالم العربي، وحمْلُ لواء فلسطين، والتحالفُ العربي مع الولايات المتحدة التي تُعاديها. ولذلك، وكما ذكرتُ في المسالك الثلاثة، صارت لها مواطئ أقدام في عدة أمكنة ودولٍ عربية وبالترهيب قبل الترغيب. وهذه مشكلة كبرى أدركْنا هولها الهائل بعدما حصل في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وبخاصة في فترة انجذاب أوباما باتجاه إيران.
إنما في كل تلك السنوات، ورغم استخدام سائر «الأحزاب الإلهية» و«القاعدة» و«داعش»؛ فإنّ دول الخليج بقيت مستقرة ولم ينل منها التهديد الإيراني، ولا حدثت فيها اختراقاتٌ يمكن أن تؤثر سلباً إلاّ لجهة اليمن.
ونحن الآن على عتبة موجة مرتفعة من موجات التوتر الأميركي – الإيراني. والواضح منذ البداية أنّ إيران لن تركّز على إسرائيل، ولن تجرؤ على الهجوم (ولو غير المباشر) على الآلة الحربية أو المصالح الحيوية الأميركية؛ بل ستركّز جهدها وبأشكالٍ مختلفة على زعزعة أمن الخليج، والتأثير على إنتاج النفط وتصديره. فنحن محتاجون الآن إلى تضامنٍ عربي قوي من حول الخليج، وآخر إسلامي في قمة مجلس التعاون. وقد أدركت المملكة ذلك منذ سنواتٍ ودخلت في مشروعاتٍ للتحالف الإسلامي والعربي. والعلاقات جيدة ليس مع الأميركيين وحدهم بل ومع الروس والصينيين. ولذلك لا بد من إظهار أوضح للقدرات الدفاعية والسياسية والدبلوماسية – أو تزداد مخاطر الانقسامات وعدم الاستقرار تحت وطأة الإحساس بالضعف أو بالاختلال. الولايات المتحدة سياساتها متقلبة. وإيران تركّز علينا، فينبغي أن نُظهر لها العين الحمراء بأنفسنا وليس العين الحمراء الأميركية وحسب.