في خطابه ما قبل الأخير، أعلن الأمين العام لـِ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، «تأمين» منطقة الحدود الشرقية بعد «إنجاز» الجزء الأكبر من المعركة ضد «الجماعات والقوى التكفيرية والإرهابية» السورية.. وفي خطابه الأخير أعلن «إنجاز المهمة» والانسحاب من مواقع القتال وتسليمها الى الجيش اللبناني!
تدرّج منطقي لتمرير قصة الانسحاب من دون إحداث صدمة عند جمهور «الانتصارات الإلهية» خصوصاً أنه اعتاد على منطق آخر، في سوريا تحديداً، عماده الهجوم الاستباقي على طول الخط و«الذهاب إليهم قبل مجيئهم إلينا».. عال!
لكن، في خطابه الأخير، قبل يومين كرّر الأمين العام التكتيك ذاته، على نطاق أوسع. وأطلق مقدّمات لـِ«إنجاز» أكبر، على ما يبدو: قال من دون أن يسأله أحد، ومن دون أن يكون الأمر مطروحاً قبل الآن، إن «حزب الله» في سوريا، ذهب لمساعدة رئيسها (السابق) بشار الأسد، وإنه يلتزم بما يقرّره، وخصوصاً في شأن وقف النار! وإنّه، في المحصّلة، لا يريد شيئاً خارج سياق تلك المهمة، في الداخل السوري!
افترض (والله أعلم) أنّ طرح هذا الموضوع بهذا الشكل الافتعالي، من دون مقدّمات ولا مسوّغات، وللمرّة الأولى منذ ذهاب «حزب الله» الى سوريا، قد يكون مقدّمة لكلام آخر، في آتي الأيام، مفاده، أنّ «القيادة السورية التي ذهبنا لمساعدتها، والتزمنا قراراتها.. كذا، قرّرت بعد أن عادت الى الإمساك بزمام الأمور (أو شيء من هذا القبيل!) أنّها لم تعد تحتاج الى مساعدة منّا! ولذا يمكننا الإعلان عن أن المهمة أُنجزت! وسيعود مقاتلونا الى لبنان»!
وهذا سيناريو واقعي، وليس افتراضياً! وأهم مؤشراته كلام السيد نصرالله نفسه! وهو الذي لم يسبق له، على مدى السنوات الماضيات، أن أعطى إمرة مقاتليه لبشار الأسد! بل بدا في واقع الحال، وأكثر من مرّة في خطاباته الكثيرة، بأنّه سيّد نفسه في سوريا! ومرجعه الوحيد هو المرشد الإيراني، ومنه فقط تُقبل الأوامر والتوجيهات! ومع عامله على الأرض الجنرال قاسم سليماني يتم التنسيق العمليّاتي والميداني في خطوطه العريضة والرفيعة! بل إن كثيرين يجزمون، بأنّ مناطق خاضعة لـِ«حزب الله» و«المستشارين» الإيرانيين، والميليشيات العراقية الرديفة، ممنوع أن يدخل إليها عنصر أسدي واحد!
ثم قبل ذلك، غريب جداً أن يحصر نصرالله «المهمة» السورية بحماية نظام الأسد فقط! مع أنّ كلّ من عليها يعرف أنّه ذهب لحماية نفوذ إيران! وتدرّج في تبريراته من حماية المقامات الدينية الى حفظ خطوط إمداد «المقاومة».. الى مقاتلة «التكفيريين والإرهابيين»، وصولاً (بالأمس) الى صون التعدّدية اللبنانية ورعايتها!
صحيح منطقياً، أنّ كل هذه التبريرات مرتبطة وتكمل بعضها بعضاً في أجندة الولي الإيراني. لكنّ الصحيح المقابل، هو إشهار الاستغراب إزاء الكلام الأخير، ثم الافتراض تبعاً لذلك، إنّ صاحب الشأن والقرار في طهران «يواكب» المستجدات الدولية (والإقليمية) التي أنتجها (ويعمل على إكمال انتاجها) القرار الأميركي بالتصدي للتمدد الإيراني الخارجي، والعمل (الجدّي) على تحجيمه إن لم يكن إنهاءه والعودة بالأمور الى السياقات «الشرعية» الحاكمة للعلاقات بين الدول، وخصوصاً في المنطقة العربية والإسلامية.
.. الانسحاب من الجرود الشرقية اللبنانية، بداية مسار إيراني إقليمي كبير، وليس أيّ شيء آخر. لكنّ السؤال في شأن مآلاته يبقى قائماً: هل يكتمل وفق تسوية كبيرة تنصاع بموجبها إيران لمنطق الدولة، أم ينقطع تبعاً لضرورات منطق «تصدير الثورة»؟!
في كلتا الحالتين: «موضوع» «حزب الله» في سوريا ولبنان وغيرهما يبقى في يد المرشد الإيراني، وليس في يد بشار الأسد!