يعتقد «سورين كيركغور» أنّ القلق واليأس هما حالتان أساسيتان في الوجود الإنساني. والقلق هو الشعور بالارتباك والضياع الذي نختبره عندما نواجه اختيارات صعبة. واليأس هو الشعور بالعجز، واليأس الذي نختبره عندما ندرك أنّنا لا نستطيع التحكّم في حياتنا.
ساهمت الأصولية السّلطوية في زيادة الطلب على الأصولية الدينية، حيث انضمّ كثير من الشباب لصفوف هذه الحركات، باعتبارها البديل الوحيد للأصولية السلطوية. رَأي محمد علي مقلد، أنّ «الأصوليات واحدة وإن تعدّدت الأدوات المفهومية. فهي كلّها تغليب للأيديولوجي على المعرفي، للسياسي على الثقافي، للإيمان على الدين، وهي، بالدرجة الأولى، تغليب المصالح على المبادئ». الأصولية السّلطوية كانت أيضا سبباً مهمّاً في تغذية الأصولية الدينية، ليس بسبب إغلاقها للمجال السياسي، وإنّما أيضاً بسبب احتكارها لكلّ المساحات التمثيلية الأحرى، مما أسبغ شرعية على استراتيجية التحدّي التي مارستها الأصولية الدينية تجاه الدولة والمجتمع.
اعتمدت نظرية «ولاية الفقيه» الإيرانية سياسة «الألغاز فى الطلاسم و الطلاسم فى الألغاز»، وصعوبة فهم أو فك ألغاز الطلاسم السياسية الإيرانية منذ ظهور نظام ولاية الفقيه والتورية السياسية الفقهية الإلهية المقدّسة.. إلى مسمّيات مثل الشيطان الأصغر والشيطان الأكبر والتحالفات العميقة الغادرة، وكذبة البرنامج النووي الإيراني لأغراض سلمية دون ذكر الوقائع والتداعيات التي اقتربت من إنتاج قنابل نووية صغيرة الحجم والمفعول ومتوسطة.. إلى فضيحة «إيران غيت» أو «إيران كونترا» بين الثلاثي الإيراني- الإسرائيلي- الاميركاني، ومحور الممانعة التي مهمّتها قصف المدن العربية والتشويش عليها، ووضع الأذرع الخارجية الإيرانية على سيادة وشرعية بعض العواصم العربية واحتلالها، وإلى وحدة الساحات المشبوهة من رأسها إلى أخمص قدميها، وحروب الوكلاء الحصريين بنسخة «mini» إيرانية وألسنة عجمية، و»طوفان الأقصى» اخيراً وليس آخراً..!
من الألغاز الإيرانية التي ما زالت حتى أيامنا المفصلية هذه عصية على الفهم أو الفك أو الحل، إنّ إسرائيل لم تبدأ في النظر إلى إيران باعتبارها تشكّل «تهديداً استراتيجياً» حتى وقت متأخّر من التسعينات. وفي إحدى المرات، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الحائز على جائزة نوبل للسلام، إسحاق رابين، إيران بأنّها واحدة من «أفضل أصدقاء» إسرائيل؛ لكنّ في غضون سنوات قليلة غيّر لهجته، واصفاً الخميني بأنّه يقود «نظاماً ظلامياً وقاتلاً». وعلى الرّغم من حقيقة أنّ الدولتين لا تشتركان في حدود، وتبعدان أكثر من 1000 ميل (نحو 1610 كيلومترات) عن بعضهما البعض، فإنّ مساعي إيران لحيازة أسلحة نووية، أجّجت بشكل واضح التوتّر بين الجانبين. على الرغم من أنّهما كما ذكرنا أعلاه، لا يشتركان في أي حدود، ولا توجد بينهما أي نزاعات إقليمية مباشرة.
يقول الباحث السياسي الأميركي إيان بريمر، رئيس ومؤسّس مجموعة «أوراسيا» الاستشارية لتحليل المخاطر، في تقرير نشرته GZERO Media، إنّ «المصالح المشتركة بين إسرائيل من جانب، وإيران وتركيا على الجانب الآخر، وهما دولتان غير عربية في المنطقة، أفضت إلى علاقات تجارية سرّية، وبرنامج لتبادل المعلومات الاستخبارية أُطلق عليه اسم (تحالف ترايدنت) في الفترة من عام 1956 إلى عام 1979».
عند إعلان قيام دولة إسرائيل في عام 1948، فرّ الكثير من اليهود من العراق للاستقرار في إسرائيل، كانت إيران بمثابة محطة استراحة على الطريق لأعداد كبيرة منهم بعد هروبهم من العراق باتجاه الكيان المُحتل للأراضي الفلسطينية في تلك الحقبة من التاريخ.
وحتى بعد ما يُسمّى الثورة، عندما قطعت إيران فجأة علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، استمر التعاون العسكري لسنوات عدة، وهذا لغز آخر لم تُفك طلاسمه بعد، إذ لجأت إيران إلى إسرائيل لتسليحها خلال حربها مع «العراق المجاور». وشمل التعاون بين إسرائيل وإيران أيضاً مشروع «فلاور»، والذي بموجبه اشترت إيران تكنولوجيا الصواريخ من الإسرائيليين بعد أن اشترى العراقيون صواريخ سكود الباليستية، وفق مصادر إسرائيلية رسمية ألقت بألغاز أخرى في علاقات إيران واسرائيل تاريخياً. وفي هذا السياق، كتبت خبيرة شؤون الشرق الأوسط في مركز «بيركل» للعلاقات الدولية في جامعة كاليفورنيا، داليا داسا كاي، في كتاب صدر عام 2011 بعنوان «إسرائيل وإيران: خصومة خطيرة»، أنّ «سياسة إيران الخارجية في مرحلة ما بعد الثورة كانت في البداية مفرطة في الحماس وأيديولوجية: كان مجرّد وجود إسرائيل بمثابة إهانة للحماسة المناهضة للإمبريالية التي استحوذت على النفس الثورية الإيرانية». وفي ثمانينات وتسعينات القرن الماضي على سبيل المثال، ظلّ عداء طهران تجاه إسرائيل خطابياً إلى حدّ كبير. وكانت إيران تشير علناً إلى إسرائيل باسم الشيطان الأصغر، في حين كانت عبارة الشيطان الأكبر تشير إلى الولايات المتحدة الاميركية التي خاطبها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان «بروح الصداقة والأخوة»، والتي زادت الألغاز لغزاً آخر أكثر عصياً على الفهم أو الفك من أخواته الألغاز التاريخية بين الدولة الصهيونية وإيران الأصولية.
هذا دون ذكر أنّ مجمل مشتريات نظام الخميني من الشيطان الأصغر انتهت إلى «شراء أسلحة بقيمة 500 مليون دولار من الحكومة الإسرائيلية خلال الحرب الإيرانية- العراقية في الثمانينات لوقف القوات العراقية الغازية»، حسبما ذكرت صحيفة «تليغراف» البريطانية. في غضون ذلك، كانت إيران تعمل على بناء جيش وصفته «تليغراف»، بأنّه «قوات مقاتلة بالوكالة» على حدود إسرائيل، وهو ما يشكّل سابقة رئيسية حيث أصبح في ما بعد «حرب الظل» التي استمرّت لعقود. ولعبت طهران دوراً أساسياً في المساعدة على تحويل جماعة «حزب الله» اللبنانية، إلى «قوة عسكرية كبيرة كبّد الخزينة الإيرانية مئات ملايين الدولارات في أعصى الألغاز المستعصية قاطبة»، هذا ومنحت طهران جماعة الحزب نحو 700 مليون دولار نقداً وأسلحة في عام 2020 وحده»، وفق تقرير نشرته الخارجية الأميركية. وبعد انتهاء الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1993، استضافت إيران و»حزب الله» مقاتلين من حركة فلسطينية ناشئة آنذاك تسمّى «حماس»، وعلّموهم كيفية صناعة واستخدام القنابل الانتحارية، ثم نُقل هذا التكتيك إلى إسرائيل، واستُخدم خلال الانتفاضة الثانية، التي اندلعت في 28 أيلول 2000، وتوقفت فعلياً في 8 شباط 2005. وقالت «تليغراف» إنّه منذ ذلك الحين «يُعتقد أنّ إيران أرسلت عشرات الملايين من الدولارات إلى «حماس»، كما دعمت طهران حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، وجماعة الحوثيين (الموالية لها) في اليمن التعيس».
هذا دون أن يغيب عن الذاكرة فضيحة «إيران غيت» أو «إيران كونترا» في الثمانينات.. فضيحة المصالح فوق المبادئ. ويُنسب اسمها إلى صفقة سرّية، حيث باعت إدارة الرئيس رونالد ريغان خلال فترة ولايته الثانية إيران أسلحة بوساطة إسرائيلية، على الرّغم من قرار حظر بيع الأسلحة إلى طهران وتصنيف الإدارة الأميركية لها «عدوة لأميركا» و»راعية للإرهاب». وفي المقابل، استخدمت واشنطن أموال الصفقة وأرباحها في تمويل سرّي لحركة معارضة الثورة المعروفة بـ»الكونترا» التي كانت تحارب للإطاحة بالحكومة اليسارية وحزب «ساندينيستا» الذي كان يحكم نيكاراغوا، وحظي بدعم من الاتحاد السوفياتي سابقاً وكوبا. نصّ الاتفاق السرّي بين أميركا وإيران -التي كانت تخوض آنذاك حرباً ضدّ العراق في ذلك الوقت- على تزويد طهران بأسلحة متطوّرة، تشمل قطع غيار طائرات «فانتوم» وحوالى 3 آلاف صاروخ من طراز «تاو» TOW مضاد للدروع وصواريخ «هوك» أرض جو HAWK مضادة للطائرات، مقابل إطلاق سراح مواطنين أميركيين كانوا محتجزين في لبنان. وتمّ الاتفاق حينئذ بين جورج بوش الأب، نائب الرئيس ريغان، ورئيس الوزراء الإيراني أبو الحسن بني صدر في باريس، بحضور آري بن ميناشيا مندوب المخابرات الإسرائيلية الخارجية «موساد». وبموجب الصفقة تمّ إرسال 96 صاروخاً من طراز «تاو» يوم 20 آب 1985 انطلقت من إسرائيل إلى إيران على متن طائرة من نوع «دي سي 8». ويوم 14 أيلول من نفس العام أرسلت شحنة إضافية تضمّنت 408 من نفس الصواريخ، تلتها شحنة 18 صاروخاً مضاداً للطائرات من نوع «هوك» انطلاقاً من البرتغال وإسرائيل يوم 24 تشرين الثاني، وتبعها 1000 صاروخ «تاو» على دفعتين يومي 17 و27 شباط 1986. ويوم 24 أيار 1986، أرسل 508 صواريخ «تاو» و240 من قطع الغيار لصواريخ «هوك» إضافة إلى 500 صاروخ «تاو» يوم 28 تشرين الأول من نفس العام.
يتناول كتاب التحالف الغادر: (إيران، أميركا، إسرائيل)؛ بقلم تريتا بارزي – جامعة جون هوبكنز تفاصيل الاتصالات والتعاملات السريّة بين (إيران، أميركا، إسرائيل) هذا ليس عنواناً لمقال لأحد المهووسين بنظرية المؤامرة، وهو بالتأكيد ليس بحثاً أو تقريراً «دعائياً أو ترويجياً»، لمجرّد عرضه للعلاقة بين إسرائيل وإيران وأميركا وللمصالح المتبادلة بينهم وللعلاقات الخفيّة. وُصف الكتاب بأنّه الكتاب الأكثر أهمّية على الإطلاق من حيث الموضوع وطبيعة المعلومات الواردة فيه والأسرار التي يكشف بعضها للمرّة الأولى، وأيضاً في توقيت وسياق الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط ووسط الأزمة النووية الإيرانية مع الولايات المتّحدة. الكاتب هو «تريتا بارزي» أستاذ في العلاقات الدولية في جامعة «جون هوبكنز»، ولد في إيران ونشأ في السويد وحصل على شهادة الماجستير في العلاقات الدولية ثم على شهادة ماجستير ثانية في الاقتصاد من جامعة «ستوكهولم» لينال في ما بعد شهادة الدكتوراة في العلاقات الدولية من جامعة “جون هوبكنز” في رسالة عن العلاقات الإيرانية – الإسرائيلية. وتأتي أهمية هذا الكتاب من خلال كمّ المعلومات الدقيقة، والتي يكشف عن بعضها للمرّة الأولى، إضافة إلى كشف الكاتب لطبيعة العلاقات والاتصالات التي تجري بين هذه البلدان (إسرائيل- إيران – أميركا) خلف الكواليس، شارحاً الآليات وطرق الاتصال والتواصل في ما بينهم في سبيل تحقيق المصلحة المشتركة التي لا تعكسها الشعارات والخطابات والسجالات الإعلامية الشعبوية والموجّهة.
يستند الكتاب إلى أكثر من 130 مقابلة مع مسؤولين رسميين إسرائيليين، إيرانيين وأميركيين رفيعي المستوى ومن أصحاب صنّاع القرار في بلدانهم. إضافة إلى العديد من الوثائق والتحليلات والمعلومات المعتبرة والخاصة. ويعالج “تريتا بارزي” في هذا الكتاب العلاقة الثلاثيّة بين كل من إسرائيل، إيران وأميركا، لينفذ من خلالها إلى شرح الآلية التي تتواصل من خلالها حكومات الدول الثلاث، وتصل من خلال الصفقات السريّة والتعاملات غير العلنية إلى تحقيق مصالحها على الرغم من الخطاب الإعلامي الاستهلاكي للعداء الظاهر في ما بينها. اللعبة السياسية التي تتّبعها هذه الأطراف الثلاثة، ويعرض بارزي في تفسير العلاقة الثلاثية لوجهتي نظر متداخلتين في فحصه للموقف بينهم:
أولاً: الاختلاف بين الخطاب الاستهلاكي العام والشعبوي (أي ما يُسمّى الأيديولوجيا هنا)، وبين المحادثات والاتفاقات السريّة التي يجريها الأطراف الثلاثة غالباً مع بعضهم البعض (أي ما يمكن تسميته الجيو-استراتيجيا هنا).
ثانياً: يشير إلى الاختلافات في التصورات والتوجّهات استناداً إلى المعطيات الجيو-استراتيجية التي تعود إلى زمن معيّن ووقت معيّن.
ليكون الناتج محصلة في النهاية لوجهات النظر المتعارضة بين “الأيديولوجية” و “الجيو-استراتيجية”، مع الأخذ في الاعتبار أنّ المحرّك الأساسي للأحداث يكمن في العامل “الجيو-استراتيجي” وليس “الأيديولوجي” الذي يُعتبر مجرّد وسيلة أو رافعة.
بمعنى أبسط، يعتقد بارزي أنّ العلاقة بين المثلّث الإسرائيلي- الإيراني – الأميركي تقوم على المصالح والتنافس الإقليمي والجيو-استراتيجي وليس على الأيديولوجيا والخطابات والشعارات التعبوّية الحماسية… الخ.
وفي إطار المشهد الثلاثي لهذه الدول، تعتمد إسرائيل في نظرتها إلى إيران على “عقيدة الطرف” الذي يكون بعيداً عن المحور، فيما تعتمد إيران على المحافظة على قوّة الاعتماد على “العصر السابق” أو التاريخ حين كانت الهيمنة “الطبيعية” لإيران تمتد لتطال الجيران القريبين منها.. وللكلام تتمة..!