للمرة الأولى يبدو أنّ السياسة الايرانية بلغت حداً من التراجع الكبير في العراق وصل الى مأزق بدأت خيوطه تضيق الخناق على القيادة الإيرانية… بعدما أخذ العراق يتفلت تدريجياً من القبضة الايرانية وهي التي كانت، الى أشهر خلت، تتحكم بمصائر ومقدرات هذا البلد العربي العريق… لدرجة أنّ قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الايراني وجد نفسه مضطراً لأن يبلغ به الغضب من الحال العراقية حدّ اتهام رئيس الوزراء العراقي العبادي بأنّه خائن يجب محاكمته!
إنّه ما يشبه الإنقلاب الأبيض الذي تحقق في العراق من خلال الانتخابات النيابية الأخيرة التي أسفرت عن خيبة أمل إيرانية غير مسبوقة… فالنتائج كشفت للإيراني أنّ الشعب العراقي بأطيافه كافة يرفض الهيمنة الايرانية عليه، وهذا ينطبق على الشيعة العراقيين وبالطبيعي على الطيف العراقي السنّي.
إنّ تمادي إيران في محاولتها إلغاء دور العراق إلغاءً كاملاً، والإملاء على المسؤولين فيه بما يجب أن يتخذوه من مواقف وما يجب ألا يتخذوه… إنّ هذا التمادي استدرج المواقف الاميركية والعالمية الصلبة ما أسفر عن اضطرار إيران الى التخلّي عن مشروعها النووي أوّلاً بأوّل.
ثم جاءت العقوبات الاميركية الجديدة (في هذا الشهر) مضافة الى ما لم يُرفع عن إيران من عقوبات سابقة، وما أعلن عنه الرئيس الاميركي ترامب من إعادة إطلاق العقوبات في تشرين الثاني المقبل التي كان قد جمّدها سابقاً… جاءت هذه التطوّرات، بما فيها استهداف برنامج الصواريخ الإيرانية، ليقضي على هذا «الإنجاز» التسلّحي الايراني، بعد وأد المشروع النووي.
وهذا التراجع، مصحوباً بحال الفقر المتفاقمة في الشعب الايراني بسبب الانفاق المالي الهائل المترتب على التدخل في سوريا والعراق، أدّى الى حراك شعبي في الداخل الايراني بدت معالمه واضحة في الأسابيع الأخيرة من خلال التظاهرات التي شهدتها شوارع طهران وسائر المدن الايرانية.
لم تكتفِ إيران بالسيطرة على السياسة العراقية الرسمية والقرار العراقي بسيطرتها على أركان الدولة، فذهبت الى اللعبة الطائفية – المذهبية ما أدّى الى تفاقم العنف الدموي في العراق… وبالتالي الى مضاعفة نقمة الشعب العراقي على طهران.
كذلك مارست إيران في العراق ما يمارسه الاستعمار الحقيقي: إقصاء أطراف من هنا، وتقديم طبقة فاسدة من هناك، والإمعان في نهب ثروات هذا البلد العربي وتوزيعها على قاسم سليماني وأتباعه… على مرأى ومسمع من الشعب العراقي.
أضف الى ذلك أنّ الشعب العراقي مشهود له بالأنفة و… بالتمرّد على حكّامه حتى الذين هم من صُلْبِهِ… فكم بالحري رفضه الهيمنة الخارجية، وبالذات إذا كانت هيمنة فارسية!
هذه، باختصار بعض أوجه المأزق الايراني في العراق، والذي يبدو أنه بوادر إنهيار دولة ولاية الفقيه، أو الامبراطورية الفارسية المتجدّدة.