مع الضربة الإسرائيلية للقنصلية الإيرانية في دمشق، دخلت المواجهة بين طهران وتل أبيب مرحلة جديدة، بعدما اتخذت في المرحلة السابقة أشكالاً عدة بينها حروب سيبرانية ضد المفاعلات النووية ومحطات توليد وتوزيع الكهرباء في إيران وأعمال ارهابية استهدفت علماء ذرة إيرانيين. كما يمكن وضع هجمات التنظيمات الانفصالية في بلوشستان وكردستان وخورستان في إطار محاولة زعزعة الأمن الإيراني يضاف إليها هجمات تنظيمي «القاعدة» و«داعش» وآخرها الهجوم الذي استهدف مطلع هذه السنة مواطنين محتشدين للمشاركة في ذكرى اللواء قاسم سليماني في محافظة كرمان.
في سوريا، ومنذ أكثر من خمس سنوات، تقصّف الطائرات الإسرائيلية «أهدافاً إيرانية» أو لـ«حلفاء إيران» أو لحزب الله، كما إغتالت قادة إيرانيين في غارات استهدفت منازلهم في دمشق وأبرزهم رضي الموسوي. كانت إيران تُلوّح بالرد على الهجمات الإسرائيلية في زمان ومكان يحددان لاحقاً، لكن بعد اغتيال سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس، ردّت بقصف قاعدة عين الأسد العسكرية الأميركية غربي العراق، وشاهدنا كيف قصفت مؤخراً ما اعتبرته مركزاً للموساد في أربيل بعدما حمّلت إسرائيل مسؤولية الهجوم الإرهابي على المحتشدين في كرمان لزيارة ضريح سليماني. الرد الإيراني.. قادم غداة ضربة القنصلية في دمشق، هدّد المرشد السيد علي خامنئي صراحة بالرد وتوجيه «صفعة» لإسرائيل وجعلها تندم على فعلتها. كما أكد السيد حسن نصرالله في كلمته بمناسبة «يوم القدس العالمي» أن الرد آتٍ لا محالة، وأكد أن إيران اليوم على قلب رجل واحد، في إشارة الى التصميم الإيراني على الرد، وأضاف «الجميع يجب أن يُحضّر نفسه وأن يرتب أموره وأن يحتاط بالحد الأدنى». جديّة إسرائيلية بالتعامل مع التهديد كانت إسرائيل تعلن مسؤوليتها عن بعض الهجمات خصوصاً في سوريا، لكنها لم تعلن صراحة مسؤوليتها عن الهجمات داخل إيران، واكتفت بالتسريبات الإعلامية من دون أن تكترث لاحتمال ردود فعل إيرانية، لكن الآن أصبحنا أمام وضع مختلف، فإسرائيل أعلنت الإستنفار وسلسلة تدابير خاصة في ٢٧ بعثة دبلوماسية بين سفارة وقنصلية في شتى أنحاء العالم وأعلنت أيضاً عن تدابير إخلاء ونقل دبلوماسيين وغيرها. في الداخل، استدعت إسرائيل العسكريين العاملين في الدفاع الجوي من إجازاتهم وأعادت استدعاء الإحتياط في سلاح الدفاع الجوي أيضاً ووضعت القبة الحديدية وأسلحة الدفاع الجوي في حالة جهوزية كاملة لمنع خرق الأجواء الإسرائيلية. كما اتخذت تدابير لوجستية في داخل إسرائيل وتحديداً في غوش دان (قلب إسرائيل بين حيفا وتل أبيب والقدس) وفتحت الملاجئ وكلها إجراءات تشي بتعامل القيادة الإسرائيلية بجديّة مع التهديد الإيراني بالرد.
الرد الإيراني المحتمل إذا انطلقنا من التقييم الإسرائيلي، يمكن أن نضع احتمالات الرد الإيراني في خارج البلاد على بعثات دبلوماسية إسرائيلية في دول قريبة.. وفي ذاكرتنا القصيرة أن إيران تجرأت وأقدمت على قصف أهداف لمنظمة إرهابية داخل أراضي باكستان المجاورة والصديقة، وهي دولة نووية وأكبر من إيران، وهذه الواقعة تجعلنا نحتمل هجوماً إيرانياً على أهداف إسرائيلية في دولة ثالثة. يتطلب الهجوم داخل دولة ثالثة مراجعة حسابات سياسية واقتصادية قبل اتخاذ قرار الرد. أما الرد في داخل إسرائيل فهو مشروع قانوناً رداً على استهداف «أرض إيرانية» في سوريا، أي مبنى القنصلية الذي تسري عليه مفاعيل اتفاقية فيينا الدولية. قد يشمل الرد بضعة أهداف بدءاً من مفاعل ديمونا النووي غير المُصرح عنه للوكالة الدولية للطاقة النووية، بعكس ما تعاملت إيران مع ملفها النووي السلمي، ولكن هذا الأمر مستبعد لأنه قد يؤدي إلى انفجارات ومحاذير نووية وتلويث المنطقة فضلاً عن أنه سيؤدي إلى الحرب الشاملة التي يخشاها الجميع. من الممكن استهداف قواعد جوية إسرائيلية مثل قاعدة رامات دافيد في الشمال أو قاعدة حتسريم قرب غزة أو قصف قاعدة بحرية في إيلات أو أسدود أو حيفا أو قصف مستوطنات في الضفة الغربية تُسلّط الضوء على الإستيطان غير المشروع في الأراضي الفلسطينية، وقد يعتبرها قسم من الرأي العام الغربي «ضربات مشروعة»! المهم أن أي خرق للأجواء الإسرائيلية وسقوط مُسيّرة أو صاروخ على هدف إسرائيلي أياً كان نوعه وظيفته ضرب هيبة الجيش الإسرائيلي، استكمالاً لما دشّنته حركة حماس في عملية «طوفان الأقصى»، قبل ستة أشهر. الرد الإسرائيلي على الرد تبقى النقطة الأعقد هي حجم الرد الإيراني الذي يجعل إسرائيل قابلة على الابتلاع، تماماً كما ابتلعت الولايات المتحدة قصف قاعدة عين الأسد، قبل أربع سنوات ونيف، فما هي الحدود التي يُمكن أن تضبط الموقف تحت سقف الرد من جهة والقبول بالواقع من جهة أخرى؟ إذا قررت إسرائيل الرد فهي أمام ثلاثة خيارات: أولاً؛ شنّ هجمات إرهابية في داخل إيران ترافقها هجمات سيبرانية على أهداف حيوية مثل مفاعلات الطاقة النووية ومنشآت النفط والكهرباء والإدارة العامة والمالية ثانياً؛ قصف جوي باستخدام طائرات F35. في هذا السياق، نشر موقع WarZone في ٩ حزيران/يونيو مقالاً حول تعديلات أدخلت على طائرات F35 التي سلّمتها الولايات المتحدة إلى إسرائيل بما يزيد مداها العملياتي وتصبح قادرة على تنفيذ ضربات في عمق إيران من دون التزود بالوقود في الجو. ويشمل التعديل وضع خزانات وقود إضافية في الطائرة تكفي لإكمال المهمة، لكن تبيّن أن الخزانات الإضافية تؤدي إلى ظهور إشارة على شاشة الرادار الإيراني وكشف الطائرة أمام الدفاعات الجوية الإيرانية. لهذه الغاية، يعمد الطيار إلى التخلص من هذه الخزانات ورميها قبل بلوغ مدى رصد الرادارات الإيرانية، أي أن مسألة التحليق دقيقة جداً. كما تم تصميم قنابل بمواصفات خاصة وقوة تدميرية عالية يتم تزويدها للطائرة لتنفيذ المهام المطلوبة وهي في الغالب قصف مواقع نووية.
بالنسبة إلى استخدام عدد أكبر من طائرات F35 للقيام بمهمات في العمق الإيراني، فقد ذكر كاتب المقال توماس ندويك أن الطائرات التي تحمل خزانات نقل الوقود أصبحت قديمة ومُعرضة للكشف خصوصا عند عبورها في أجواء غير مضمونة مثل أجواء العراق والسعودية، لذلك أوصت إسرائيل بتزويدها بطائرات نقل وقود حديثة. ويبدو أن هذه الطائرات لم تصل إلى إسرائيل بعد والقيادة الإسرائيلية ما تزال تعتمد على الطائرات التي تستطيع العمل من دون التزود بالوقود جواً. هذه العملية غير مضمونة النتائج فضلاً عن أنها تستوجب تعاونا مع القوات الجوية الأميركية. ثالثاً؛ استخدام غواصات دولفين الألمانية الصنع من البحر: بين العامين ٢٠١٢ و٢٠١٦ تسلّمت إسرائيل خمس غواصات ألمانية من نوع دولفين وأجرت تعديلات على تسليحها، بينها تزويدها بصواريخ كروز (جوالة) مُجهّزة برؤوس نووية، حسب وسائل الإعلام الألمانية. وأعلنت إسرائيل في مناسبات عدة إرسال بعض هذه الغواصات إلى خليج عُمان شمال المحيط الهندي وتركيزها في الأعماق قبالة الساحل الإيراني. من المفترض أن تكون القوات البحرية الإيرانية على علم بهذه التحركات الإسرائيلية وليس مُستبعداً أن تحاول إسرائيل قصف إيران من هذه الغواصات، الأمر الذي يفتح الباب أمام احتمال منازلة بين البحرية الإيرانية وهذه الغواصات وحتماً ستكون منازلة مُعقدة جداً وغير مسبوقة في التاريخ العسكري.
رد إيران على الرد الإسرائيلي لطالما تركزت الصناعات العسكرية الإيرانية على صناعة الصواريخ من بالستية إلى كروز (جوالة) إلى صواريخ دفاع جوي وطائرات مُسيّرة بالإضافة إلى غواصات ديزيل وزوارق ومراكب بحرية. والملاحظ أن امكانات أجهزة الرادار الإيرانية دقيقة جداً إذ أنها أسقطت عام ٢٠١٩ طائرة أميركية من دون طيار ميزتها عن طائرة عسكرية أميركية أخرى تقع في مجال الرمي نفسه أن إيران أرادت تفادي وقوع خسائر أميركية في الأرواح. بعد تلك الحادثة تبين أن إيران لم تطلق صواريخ على الطائرة المأهولة. ونشرت صحيفة «فايننشال تايمز» تصريحاً للرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتبر فيه أن «عدم إسقاط إيران الطائرة التي اقتحمت مجالها الجوي وعلى متنها 38 شخصاً وكانت ضمن مجال الرؤية، كان قراراً حكيماً ونحن نثمّنه».. هذه الواقعة إن دلّت على شيء إنما تدل على دقة أجهزة الإنذار الإيرانية. في ظل هذه التوازنات ننتظر كيف ستجري هذه المواجهة غير المسبوقة في التاريخ العسكري.
* عميد ركن متقاعد