IMLebanon

أبعاد الاحتقان الإيراني – الإسرائيلي ومآله

 

 

 

إن حساسيَّة الكيان الإسرائيلي من النظام الإيراني ليست بجديدة ولا هي وليدة السَّاعة، إذ بدأت مع وصول الثورة الخمينيَّة إلى الحكم، وتبنّي شعار تحرير فلسطين من المحتل الإسرائيلي، وإنزال العلم الإسرائيلي من على مبنى السَّفارة الإسرائيليَّة في طهران واستبداله بعلم فلسطين، واعتماد المبنى ذاته كسفارة لفلسطين، تسبَّبَ ذلك بقطيعة سياسيَّة مُعلنة على خلاف الوضع الذي كان سائداً طيلة فترة حكم الشاه؛ ولكن في ما بعد، وبالتَّحديد خلال الحرب العراقيَّة – الإيرانيَّة حصل تعاونٌ عسكري غير معلن، بحيث أمدَّت إسرائيل إيران بالأسلحة وخاصَّة بقطع غيار للأسلحة الإيرانيَّة – الأميركيَّة الصنع، وذلك لعدم قدرة الأخيرة الحصول عليها من أميركا مباشرةً بسبب الحصار الذي قررته الأخيرة عليها؛ ولكن افتضح أمر هذا التعاون وعرف بفضيحة إيرانغيت (Iran Gate) والغالب في الأمر أنها جاءت بتسريب من المخابرات الإسرائيليَّة، ومن ذاك الحين لم يشر إلى أي تَعاون بين النِّظامين.

عدم ارتياح الكيان الإسرائيلي للنِّظام الإيراني لا يعزى لتبنّي الثَّورة الإيرانيَّة لإيديولجيَّة إسلاميَّة راديكاليَّة متشدِّدة مذهبيًّا، إنما يكمن في تسليطه الضَّوء على القَضيَّة الفلسطينيَّة واعتِماد تحريرها شعاراً يندرج في صلب الاهتمامات الإيرانيَّة، وتخصيصه يوماً للقدس ودعوته المسلمين للمشاركة في تحرير فلسطين من المحتل، وإنشائه لفيلق القدس الإيراني هذا بالإضافةِ إلى مُنظَّمات مُسلَّحة في عدد من الدُّول العربيَّة التي تضم بين مكوناتها الشعبيَّة جماعات ينتمون للمذهب الشيعي، وربطها بالحرث الثَّوري الإيراني، وحرصه على توفير كل أشكال الدَّعم لتلك المنظَّمات سياسيًّا وعسكريًّا ولوجستيًّا وماليًّا.

 

عمدت إيران إلى توسيع نطاق نفوذها بإنشاء واستقطاب العديد من المنظَّمات الراديكاليَّة الإسلاميَّة ودعمها والوقوف إلى جانبها، وتمكينها بعضها من الوصول إلى السُّلطة كما حصل في اليمن، واستغلال سقوط بعضٍ آخر كما حصل في النِّظام البعثي في العراق، والحفاظ على وجودِ بعض ثالثٍ كما هو الحال بالنسبة للنِّظام البعثي في سوريا والوقوف إلى جانبه في وجه الانتفاضة الشَّعبيَّة التي كادت أن تطيح به، لولا الميليشيات المسلَّحة المحليَّة التي أنشأتها إيران داخل سوريا وموّلتها ودرّبتها ومدَّتها بالأسلحة، ودفعها بتنظيمات مسلَّحة خارجيَّة للقتال إلى جانب النِّظام بإشراف مسؤولين في الحرس الثوري؛ كذلك عملت إيران على تمكين بعض التنظيمات من التَّحكم في السُّلطة كما هو الحال بالنِّسبة لحزب الله وحركة أمل في لبنان، وهي لا تنفكَّ عن توفير الدَّعم المعنوي والعسكري واللوجستي لتنظيمات موجودة بغرض استمالتها واحتضانها تمهيداً للإمساك بخياراتها والتَّحكُّمِ بتوجهاتها من ذلك تنظيمي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، وغيرها من التَّنظيمات ذات التوجهات الدينية المذهبية، كما هو الحال في البحرين والسودان والصومال وغيرها من الدُّول العربيَّة.

 

التَّوجهات الإيرانيَّة القائمة على مفهوم تصدير الثورة باستنهاض أتـباع المَذهب الشيعي وربطهم بالمرجعيَّة الدينيَّة في إيران، راقت إلى القادة الإسرائيليين لأسباب عدَّة، أولها أن النِّظام الإيراني يُقيم دولته على أسس دينيَّة، وهذا ما يشجع على تقبّل المُجتمع الدَّولي لوجودِ دولة يهوديَّةٍ على أرض فلسطين، وثانياً لكونه يتسبَّبُ بفتن مذهبيَّة في المحيط العربي، ويولِّد نزاعاتٍ وحروباً شبه مُستدامة على غرار الحرب العراقيَّة – الإيرانيَّة، وهذا الأمر يلقى ترحيباً وارتياحاً غير مُعلنين لدى عدد من المسؤولين الأميركيين والغربيين المُتصهينين. في المُقابل تلك التَّوجُّهات وبخاصَّة مفهوم تصدير الثورة لم تلقِ ارتياحاً لدى عددٍ من الدُّولِ العربيَّة وأثارت حفيظة دول الخليج العربي التي بدأت تشكو من تدخُّلاتٍ إيرانيَّةٍ في شؤونها الدَّاخليَّةِ بتأليب المُكوِّناتِ الشِّيعيَّةِ للإنقلاب على النُّظم القائمة.

 

ظَّنت إسرائيل أن المنحى الثوري الإيراني يريحها ويتوافق مع مصالِحها، وكذلك الولايات المتَّحدة الأميركيَّة وحلفاؤها الغربيون، إلَّا أنه فاتهم أن إيران تحرص على استغلال الوقت لتكريس ذاتها كدولةٍ متمكنِة عسكريًّا. عملت إيران على تعزيز نفوذها إقليميًّا لتكون لاعباً أساسيًّا على السَّاحة الدَّوليَّة، وعلى الرغم من حربها الطَّويلة مع العراق والحصار شبه الدائم الذي فرضته الولايات المُتحدة الأميركيَّة عليها، استطاعت أن تُعيد بناء اقتصادها وبناءِ قُدُرات عسكريَّة نوعيَّة بحيث أضحت على مشارف الدُّخول إلى نادي الدُّول النَّوويَّة، وبموازاة ذلك طورت قُدُراتها الصَّاروخيَّة بتصنيع صواريخ ذكيَّة تُستعملُ ضد أهداف ثابتة أو مُتحرِّكة «برية وجويَّة وبحريَّة»، وأخرى بالستيَّة متوسِّطة وبعيدة المدى، قادرةٍ على ضرب عمق الكيان الإسرائيلي، هذا بالإضافة إلى تصنيع أنماط مختلفة من المُسيَّرات الجويَّة والبحريَّة يتم التَّحكُّمُ بها عن بُعد، وتُستعملُ لأغراضٍ مختلفة منها التَّجسس والمراقبة واصطياد الأهداف وأخرى تعمل كمسيَّراتٍ انتحاريَّة تُحمَّل بالمتفجرات وتوجَّه إلى أهدافها لتُدمِّرَها بمجرد الاصطياد بها، وقد أثبتت تلك المُسيَّراتُ فعاليَّتها في الحرب الأوكرانيَّة – الروسيَّة، كذلك نجحت إيران في إطلاق أقمارٍ صناعِيَّةٍ تُعنى بالأغراضٍ العسكريَّة، ودخلت في ميدان الحرب الإلكترونيَّة، ومؤخَّراً تزعمُ أنها توصَّلت إلى إنتاج صواريخ فرط صَوتيَّة.

 

لا يُريحُ هذا التَّقدُّم العسكري الذي شهدته إيران في العقدين الأخيرين الغرب عموماً، وهو مرفوض إسرائيليًّا، وربما عربيًّا، وخاصَّة بعد أن زُوِّدَ الحوثيون ببعضٍ من هذه التِّقنيات والأسلحة واستعملوا عدداً منها في استهداف منشآت ومرافق حيويَّة في عُمقِ الأراضي السعوديَّة، وهذا ما دفع بالمملكة إلى إنشاء حلف عسكري بغرض تخليص اليمن الشقيق من القبضة الحوثيَّة وإعادتِهِ إلى الحاضنة العربيَّة، إلَّا أن التَّحالف أخفق في تحقيق هدفه لوقوف إيران خلف الحوثيين وتوفير كل ما يلزمهم من خبرات ودعم عسكري ولوجستي. الأمر الذي أتاح المجال لقادة الكيان الإسرائيلي للدُّخول على الخط داعين إلى إنشاء حِلف عسكري إقليمي في وجه إيران وحلفائها، على أن يسبق ذلك تَطبيع كاملٌ للعلاقات، وانزلقت في هذا المنزلق بعض الدُّول الخليجيَّة، وابتدعت مفهوم وحدة الأديان الإبراهيميَّة؛ وحدها المملكة العربيَّة السُّعوديَّة تريَّثت في الأمر مشترطةً تطبيع علاقتها بإسرائيل بقبول الأخيرة المُسبق بحل الدَّولتين، أي بقيام دولة فلسطينيَّةٍ إلى جانب دولة إسرائيل، وعاصمتُها القدس الشَّرقيَّة.

 

تلمَّست إسرائيل مخاطر تنامي النُّفوذ الإيراني، وسعيه الدَّائم إلى امتلاك قوَّة ردع استراتيجيَّة، بحيازته أسلحةٍ استراتيجيَّة بالستيَّة ونووية، كما اختبرت القدرات العسكريَّة واللوجستية للتَّنظيمات المُسلَّحة الدائرة في الفلك الإيراني بمواجهاتها مع حزب الله الذي تعتبره أحد الأذرع الإيرانيَّة الأساسيَّة، وأيقنت أن تلك المنظمات تمتلك تقنيات عسكريَّة وفنيَّة عالية، وأن أنماطها القتاليَّة تختلف عن الأداء الكلاسيكي الجيوش العربيَّة التي سبق وخاضت حروباً معها؛ ولكن لم يكن يخطر ببال المسؤولين الإسرائيليين أن تنظيماً مُحاصراً في عقر داره (حماس) قادرٌ على مباغتتها بعَملِيَّةٍ نوعِيَّةٍ (طوفان الأقصى) فاقت تكتيكيًّا كُلَّ تَوقُّعات وتَحليلات خبرائها العسكريين والإستراتيجيين.

لقد أصابت هذه العمليَّةُ معظم القادة الإسرائيليين بصدمة أفقدتهم صوابهم، إلى حد دفعهم للظن، بادئ الأمر، أنهم بصددِ حربٍ شامِلةٍ وجودِيَّة، تُشنُّ على كيانهم من قبل إيران وأذرعها مجتمعين، وكانت أولى مبادراتهم الاتصال بحلفائهم الأميركيين والأوروبيين طالبين النَّجدة مستعجلين الدَّعم العسكري؛ وكان لهم ما أرادوا، ولم يمضِ الكثير من الوقت حتى كان البحرين: الأبيض المتوسِّط والبحر الأحمر، يغصَّان بالحشود العسكريَّة الإستراتيجيَّة، كحاملات الطائرات، والغواصات النَّووية والبوارج والمُدمرات، والقاذفات الجويَّة الاستراتيجية، وطائرات التَجسس والطائرات الشَّبح وغيرها، وحملت تلك الحشود في طياتها تهديداتٍ مبطَّنةٍ لكل من تسوّل له نفسه الانخراط في القتال لصالح حماس التي أعلنت مسؤوليَّتها عن العمليَّة.

وبمجرَّد أن اطمأن القادة الإسرائيليون إلى أن المعركة محصورة مع منظَّمة حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزَّة، واكتفاء المنظَّمات الأخرى بالمشاغلة، حتى بادروا إلى صبِّ جام غضبهم على قطاع غزَّة بقاطنيه، مستغلين إطلاق المقاومين الفلسطينيين لصواريخ باتجاه المُستوطنات والعُمق الإسرائيلي، مُعلنين عزمهم على تهجير سكان القطاع، مروِّجين لفكرة توطينهم في سينا والأردن وبعض الدُّول العربيَّة، وكادوا أن يحقِّقوا مأربهم بوقت قياسي لولا الصُّمود الأسطوري للمقاتلين الفلسطينيين ولإصرار الدُّول العربيَّة وبخاصَّة مصر والأردن على رفض تهجير المزيد من الفلسطينيين من أرضهم، وبدلاً من حصر معركتهم بمجابهةِ مُقاتلي منظمتي حماس والجهاد، بادروا إلى استهداف المدنيين الفلسطينيين بإبادةٍ جماعيَّة، تخلَّلها الكثيرُ من جرائم الحرب والقَصفِ المُمنهَجِ للأحياء السَّكنيَّة المأهولة وتدميرِ البنى التَّحتيَّة وتجويع المدنيين، وقد تجاوزَ عدد ضحاياها الفلسطينيين ما يقاربُ الخمسين ألفَ ضحيَّة ما بين قتيل ومفقود، معظمهم من الكهول والنساء والأطفال. وكل المعطيات ما تزال توحي بأن القادةَ الإسرائيليين ماضون بمخطَّتهم التَّهجيري، ومصرّون على تنفيذه عاجلاً أم آجلاً، ومن هنا يُفهم إصرارُهُم على منع مهجري وسط قطاع غزَّة وشماله من العودَةِ إلى مَساكنِهم التي هجروا منها إنَّما إلى خِيمٍ ظَرفِيَّة.

وإسرائيل بموازاةِ انشغالِها بقتالِ حزب الله وحماس، لم تغفل يوماً عن متابعة تنامي النُّفوذِ الإيراني، وهي ترى في المشروع النَّووي الإيراني خطراً وجوديًّا بالنسبة لها، وحرصت على مُتابعةِ مراحِلِ تقدُّمِهِ وحاولت مِراراً وتِكراراً تخريبِهِ وإعاقةِ تقدُّمِه، وبموازاة ذلك حرصَ قادتها على حضِّ الإدارات الأميركيَّة المتعاقبة على ضربه قبل نفاذ إيران بالخبرة النَّووية واستطراداً امتلاكها لأسلحة نووية. إلَّا أنهم كما حلفائهم الأميركيين فاتهم أن الصَّواريخ والمُسيَّرات لا تقلّ خطراً عن المفاعل النَّووي، وأن ما أطلق على السُّعوديَّة مجرَّد عيِّنة، وأن وجهتها الأساسيَّة ستكون أهدافاً في عمق الكيان الإسرائيلي كما القواعد العسكريَّة الأميركيَّة في المنطقة، وأنه لن يكون بمُستطاع إسرائيل منفردةً درءُ مخاطِرَها، وأنها ستكون بحاجة إلى تدخُّلٍ حاضنتيها الأميركيَّة والغربيَّة للدِّفاع عنها، باعتبارها ربيبتهم مُجتمعين.

ورغم عدم دخول إيران عسكريًّا إلى جانب حماس، كما التَّخلي عن استراتيجيَّة الجبهات الموحَّدة، والإستعاضة عنها بمشاغلات مضبوطة من التنظيمات العسكريَّة التي تعتبرها أذرعاً عسكريّة للحرس الثَّوري الإيراني، بدءاً من لبنان وسوريا والعراق واليمن، لم ولن تغفر إسرائيل لها تبعات دعمها لتلك التَّنظيمات الراديكاليَّةِ المُسلَّحةِ القائمَةِ على إيديولوجِيَّةٍ دينيَّة – مذهبيَّة، واستنزافِ قُدراتِها العسكريَّةِ والاقتصاديَّة، وإلهائها عن متابعةِ تطورات التَّرسانة العسكريَّة الإيرانيَّة، وهي ترى في الحشود العسكريَّة التي جاءت لنُصرتها والوقوف إلى جانبها والدِّفاع عنها، فرصةً مؤاتيَةً لجرّ إيران إلى مواجهة مباشرة، وفي هذا السِّياق يأتي التَّصعيدُ الإسرائيلي وزيادةُ وتيرة الضَّربات التي تستهدفُ تمركزات الحرسِ الثوري الإيراني وحزب الله في سوريا، بغرض قطع طرق الإمداد عن الجبهة الشماليَّة، ولضم الأراضي الإيرانيَّة إلى حلبة الصِّراع، وهذا ما بدا واضحاً في استهدافها لسبعة من كبار القادة العسكريين في الحرس الثوري الإيراني داخل مبنى القنصليَّة الإيرانيَّة في دمشق، وذلك لإحراج إيران ودفعها للرد مُباشرة من أراضيها، وإلَّا إظهارُها بموقِفِ العاجِز عن الرَّد مباشرة، ولم يطل الوقت حتى وقعت إيران في المكيدة الإسرائيليَّة، مُطلقة عشرات الصَّواريخ والمُسيَّرات باتِّجاه إسرائيل معتبرةً ذلك عمليَّةً نوعيَّةً.

جاء الرَّدُّ الإيراني بمثابةِ رسالةٍ تحذيريَّة لمن يعنيهم الأمر بأن إيران قادرة على ضرب أية أهداف في العمق الإسرائيلي، بما في ذلك المنشآت العسكريَّة الإستراتيجيَّة، وغيرها من المرافقِ الحيويَّة، وأخطر ما فيه أنه كشف عجز الكيان الإسرائيلي عن الدِّفاع عن نفسه بنفسِه. وردَّت إسرائيل على الرَّد بزكزكة تمثَّلت بتوجيه مسيّرات صغيرة استكشافيَّةٍ من الدَّاخل الإيراني فوق منشآت عسكريَّة حسَّاسة في أصفهان، موحيةً بأنها قادرة أيضاً، وفي أيِّ وقتٍ، على القيامِ بعمليَّة نوعيَّة خاطفة، بمُشاركة أميركيَّة أم من دونها، بواسطة ما لديها من قاذفات استراتيجيَّة «الشبح» وصَّواريخ بالستيَّة ذات قدرات تدميريَّة عالية لضرب أهم المُنشآتِ العَسكريَّة الإيرانيَّة، وأنها غير مستعجلة على التَّصعيد منتظرة الموافقة الأميركيَّة.

إسرائيلُ ليست براضية باستهدافها بالصَّواريخ والمسيّرات من كل من الحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن، ولا بتعرُّض الأخيرين للسفن العابرة في البحر الأحمر منها وإليها، ولا بمشاغلة حزب الله لها عبر خاصرتها الشماليَّة، رغم أنها مضبوطة من الجانب اللبناني، ومحصورة باستهداف مواقع عسكريَّة إسرائيليَّة ومحكومة الأمد بوقف الحرب على حماس، رغم أنها غير مقيَّدة من جهتها، إذ نفَّذت العديد من العمليَّات في العمق اللبناني، تمكَّنت بواسطتها من القضاء على عددٍ كبيرٍ من الكوادر العسكريَّة الميدانيَّة الأساسيَّة في صفوف المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين، ولكنها تبقي نظرها اليوم شاخصاً بالعدو الأصيل «إيران».

إن ما تقوم به إسرائيل يبدو، من وجهة نظر عسكريَّة استراتيجيَّة صرفة، توطئةً لمُنازلةٍ مفتوحة على كل الخيارات مع لبنان أسوة بما اعتمدته حيال قطاع غزَّة، وبعد انتهائها من تقويض البنيةِ العسكريَّة الميدانيَّة للحزب. ستكون قد هيَّأت العدَّةَ للمنازلة الكبرى مع إيران، منازلةٌ أمست حتميَّة وواقعة لا محالة، وستتِم بمُشاركةٍ أميركيَّة – غربيَّة، والغرضُ منها تصفيةُ الحسابات مع إيران والقضاءُ على قُدراتها العسكريَّة، وتدمير مرافقها الحيويَّة، وربَّما تفتيتها إلى دويلات عرقيَّة مُتناحرة. علماً أن سوابق إسرائيل العسكريَّة تُشير إلى أنها تُفضِّلُ شنّ حروبها في فصل الصيف، حيث يكون بإمكانها تجنيد أكبر عدد ممكن من عناصر الإحتياط لديها.

الأنظمةُ العربيَّة للأسف وعلى الرغم من أنها المعني الأول بالقضيَّة الفلسطينيَّة تقف موقف المُتفرج من كل ما حصل ويحصل، رغم حالة الغليان التي تشهدها المنطقة، وهذا لا يعني أنهم سيكونون بمنأى عن تبعاتها، بل ربما سيٌحمَّلونَ تكاليف الحرب، وسيغضون الطَّرف عن تهجير ما تبقّى من فلسطينيين في قطاع غزَّة والضِّفة، وسيستكملُ المخطط التَّفتيتي لمختلف الدُّول العربيَّة، وسيُدفعون إلى التَّطبيع دفعاً، وسيكونون مضطرين لاحقاً إلى مُبايَعَةِ إسرائيل كشرطي لمِنطقة الشرق الأوسط بأسرها.

* عميد متقاعد