يبدو أنه مكتوب على لبنان البقاء بصورة شبه دائمة تحت سلطات انتداب، وإن تنوّعت جنسياتها.. إذ بعد تسوية عام 1861، التي أنتجت نظام المتصرفية، هذا النظام الذي كان يقتصر على جبل لبنان، في حين ألحقت الطوائف الأخرى بالدولة العثمانية.. ومنذ عام 1918 الذي شهد انتهاء عهد المتصرفية دخل لبنان مرحلة الانتداب الفرنسي، هذا الانتداب الذي خدعنا بإنشاء دولة لبنان الكبير عام 1920، لنصل بعد 23 عاماً أي الى عام 1943 الى تجربة استقلال لبنان عن فرنسا وانتدابها، الى ما يسمّى بمرحلة الصيغة والميثاق، حتى عام 1958 حين وقعنا في فخ حرب صغيرة… الى المرحلة الناصرية، يوم استطاع الرئيس المصري جمال عبدالناصر الإمساك بقرار لبنان، ولو بمنافسة شديدة من المملكة العربية السعودية التي لم يغب تأثيرها على الساحة اللبنانية… الى الانزلاق في أتون الصراع الأميركي – السوڤياتي وحرب 1967 التي دفع لبنان ثمنها بقيام المنظمات الفلسطينية المسلّحة التي موّل العرب حربها وسلاحها منذ عام 1969 والتي تجلّت بـ»اتفاقية القاهرة»، والتي رماها الاردن عام 1970 إثر أحداث أيلول الأسود، في وجه لبنان بعد «اتفاق القاهرة» (69)… الى العام 1973 حيث استمرت القيادات السياسية اللبنانية بالانقسام حول السلاح الفلسطيني وبخاصة حين نفّذ كوماندوس إسرائيلي عملية في قلب بيروت.
وبالعودة الى الفترة الناصرية، وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر ومجيء الرئيس السوري حافظ الأسد عام 1971، بدأ ملف القرار اللبناني ينتقل الى سوريا…
وتتابعت الأحداث… وبعد بداية الصراع بين الفلسطينيين وبعض اللبنانيين ودخول القوات السورية عام 1976 تدريجياً الى لبنان… أولاً الى شتورا حيث توقفت في صوفر، وأكملت انتشارها بعد انعقاد «قمة الرياض» عام 1976 التي اتخذت قراراً بدخول قوات الردع العربية الى لبنان من دول عربية عدّة، وكان عمادها الجيش السوري، بعدّته وعديده.
يومذاك أعلن عبد الحليم خدام انهم دخلوا الى لبنان للفصل بين القوات، يعني ان قوات الردع العربية لم تكن مخوّلة بسحب السلاح… بل الفصل بين الفلسطينيين والقوى اللبنانية المتقاتلة معها فقط لا غير، يعني كانت «بوليس إشارة».
بعدها حلّت حرب السنتين، وانسحبت القوات العربية ولم تبق إلاّ القوات السورية… وهنا بدأت المعارك بين السوريين والفلسطينيين من جهة مقابل «القوات اللبنانية» ومن يساندها من المسيحيين في معركتها تلك. وكما هو معروف فإن الفلسطينيين بسبب «اتفاق القاهرة» هم الذين دمّروا السلطة الشرعية اللبنانية.
وهنا أتساءل: هل هناك دولة في العالم فيها الى جانب الجيش الشرعي قوات مسلحة توازي في تسليحها وقوتها الجيش الشرعي؟
ظلت الحال حتى 1978 يوم احتلت اسرائيل جزءاً من جنوبي لبنان وقامت «دويلة سعد حداد» التي أقامتها اسرائيل للفصل بينها وبين الفلسطينيين.
عام 1982 بدأ العدو الاسرائيلي معركته لاجتياح لبنان حتى انه دخل الى بيروت بعد حصار مائة يوم، وصارت أوّل عاصمة عربية تحتلها إسرائيل… ومارس الاحتلال الاسرائيلي نفوذه في المناطق المحتلة من لبنان.
هنا قامت مقاومة للاحتلال الاسرائيلي، بغية طرد العدو من لبنان وتحريره.
انسحب الفلسطينيون من لبنان وظلّت القوات السورية في البقاع… وانسحبت اسرائيل تدريجياً من لبنان حتى عام 2000. وظلّ النفوذ السوري حتى ذاك الوقت… وبدأ النفوذ الايراني بحجة دعم المقاومة وتسليحها والسيطرة على القرار. بعد وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد رحمه الله، حيث تخلّت سوريا تدريجياً عن تفردها بالقرار.
هنا تفرّدت إيران بالقرار اللبناني تماماً، وراحت تمارس نفوذها عبر حزب الله وحلفائها… فانتقل لبنان وبصورة كلية الى مرحلة جديدة، ليقع تحت الانتداب الايراني.
هذا ما يفسّر زيارة وزير خارجية الجمهورية الاسلامية حسين أمير عبد اللهيان الى لبنان للقاء عدد من المسؤولين اللبنانيين والشخصيات الحزبية والقيادية… ما يدلّ دلالة واضحة ان هذه الزيارة لم تأتِ إلاّ كدليل على الهيمنة الايرانية رسمياً على القرار اللبناني من خلال حزب الله ومن يدور في فلكه.
وفي هذا المجال لا بد من التذكير بأنّ بشار الأسد قد ضيّع أثناء حكمه سيطرته على لبنان، وفتح في المجال أمام ايران للسيطرة على القرار اللبناني كاملاً من خلال حزب الله وسلاحه المدعوم بالتأكيد من الجمهورية الاسلامية، وصار الدور السوري في لبنان لا شيء.. لذلك فإنّ أي حلّ أو أي رئيس سيكون شاهد زور، إذا لم يتم سحب السلاح من «الحزب»… ولا يمكن للبنان أن يقوم من «تحت الانقاض» ومن «قعر جهنم» إلاّ بالتخلص من هذا السلاح الذي هو فائض قوة يُسلّط على رقاب اللبنانيين، ويتحكم بكل قرار سيقوم به أي رئيس جديد، أو أية سلطة تنفيذية قد تشكل بعد الانتخابات الرئاسية.
المشكلة بالتأكيد… هي ان النفوذ الايراني بات أمراً واقعاً.. ولا يمكن للبنان التعافي إلاّ بالتخلص منه، عبر سحب السلاح، وإبقاء هذا السلاح بيد الجيش اللبناني وحده والقوى الأمنية الشرعية الأخرى. فلا قيام لدولة السلاح فيها، بأيدٍ غير شرعية تمارس الضغط من خلاله للتأثير على القرارات المتخذة.. وهذا ما يؤدي بالتأكيد الى شلل في الحكم، يؤدي هو الآخر الى عدم قيام إصلاحات رئيسة، وقيام دولة قوية.. يكون قرار الحرب والسلم لها وحدها فقط.
باختصار شديد… لبنان لن يتعافى ما دام تحت الانتداب الايراني… وهو لن تقوم له قائمة، ما دام منتدباً… فالخلاص لا يتم إلاّ بالتخلّص من الانتداب الايراني الذي سنظل نعاني من آثاره حتى يزول.
فيا أيها اللبنانيون… لا تتعبوا أنفسكم بالبحث عن رئيس فاعل وقوي ومغوار… فلن تجدوه بالتأكيد، وإن وجدتموه فلن ينفّذ شيئاً من وعوده وعهوده، لأنّ الانتداب جاثم على صدر لبنان… وفي ظلّ الانتداب عبثاً يحاول أن يبني البنّاؤون والمصلحون.