منذ اكثر من خمسة عشر عاماً، والملف النووي الايراني يشغل الاوساط السياسية والاعلامية اقليمياً ودولياً،وهو كان ولما يزل احد الملفات الذي تتمحور حولها مفاوضات يجري بعضها تحت الطاولة وبعض اخر فوقها، رغم تبدل الادارة السياسية في كلا البلدين اميركا وايران. ولعل ابرز تطورين شهدهما هذا الملف، الاول، توقيع اتفاق اميركي – ايراني في سنة ٢٠١٥ ابان رئاسة باراك اوباما متظللاً بتغطية من وكالة الطاقة الذرية، والثاني، خروج اميركا من هذا الاتفاق ابان رئاسة دونالد ترامب، وبعده تمت العودة الى المربع الاول من السجال حول الملف مع دخول «اسرائيل» بقوة عليه مهددة بالثبور وعظائم الامور اذا ما وصلت ايران الى مستوى من تخصيب اليورانيوم يمكنها من انتاج القنبلة الذرية.
من يواكب الحراك الدولي والاقليمي حول الملف النووي الايراني وحقيقة المواقف منه،يلاحظ ان شبه اجماع دولي قائم على الحؤول دون تمكين ايران من الوصول بتخصيبها لليورانيوم للاغراض العسكرية، وان التخصيب بحدود معينة للاغراض السلمية هو المسموح به شرط ان يكون تحت اشراف وكالة الطاقة الذرية.
وعندما دخلت اميركا المفاوضات مع ايران حول هذا الملف، فإنه لم يكن البند الوحيد في ملف التفاوض، بل كان واحداً من ثلاثة، هو الاول،واما الثاني، فهو بند الصواريخ البالستية البعيدة المدى، والثالث، هو الدور الاقليمي لايران في المنطقة. وكان الموقف الاميركي طيلة فترة المفاوضات يؤكد على ان هذه البنود الثلاثة هي سلة متكاملة لاتنفصل عن بعضها البعض، فيما الجانب الايراني كان يصر على عدم الربط في مابينها، وان كل بند قائم بذاته.
عندما وقعت اميركا اتفاقها مع ايران سنة ٢٠١٥، اقتصر التوقيع عن البند الاول، اي الملف النووي، دون الثاني والثالث، مسلمة بوجهة النظر الايراني بعدم الربط بين البنود الثلاثة. وقد اعتبرت ايران نفسها حينذاك انها خرجت رابحة بحيث لم تدخل بند دورها الاقليمي وبند امتلاكها للصواريخ البالستية في صلب الاتفاق. واذا كانت وكالة الطاقة الذرية قد واكبت تلك المفاوضات، فإن مواكبتها كانت تقنية فقط، ولذا لم يكن لها شأن في انشاء الاتفاق. ومن يدقق في نسبة توازن القوى التي يحوز عليها الطرفان الاميركي والايراني، يعرف جيداً ان ارجحيتها انما هي للجانب الاميركي. ومنطق الامور يفضي الى القول، أن أي اتفاق بين طرفين انما تكون نتائجه محكومة بتوازن القوى بين الاطراف المتفاوضة. فكيف تعتبر ايران نفسها انها خرجت رابحة فيما ميزان القوى ليس في مصلحتها ؟ هنا تكمن المسألة التي تحتاج لاجابة واضحة. وملخصها تحديد السبب الذي جعل اميركا تتراجع عن اصرارها بالتفاوض حول البنود الثلاثة كسلة واحدة «باكج»، والقبول بما كانت تصر عليه ايران، علماً ان ميزان القوى السياسي والعسكري والاقتصادي والاعلامي لمصلحتها ؟
ان الاجابة على هذا التساؤل انما تجيب عليه جوهر الاستراتيجية الاميركية حيال المنطقة العربية وما بدأت تعمل لاجله بعد سقوط النظام الدولي الذي كان قائماً على ثنائية استقطابية، ومن ثم سقوط النظام العربي كنظام اقليمي بعد احتلال العراق واسقاطه وهو الذي كان يشكل احدى اهم المواقع الارتكازية للنظام العربي بعد المتغير الاقليمي الذي افرزته اتفاقيات «كامب دافيد».
واذا كانت الحاجة الملحة التي املتها ظروف الادارة الاميركية على ابواب انتخابات رئاسية تتشكل على اساسها ادارة الحكم، دفعتها للاعلان عن اتفاق حول الملف النووي الايراني لتوظيفه في سياق السباق على البيت الابيض وهذه كانت حاجة ظرفية، فإن البعد الحقيقي الذي دفع اميركا لعدم الربط بين البنود الثلاثة انذاك، هو الادراك الاميركي، بأن المهمة التي ُادخلت ايران من اجلها الى المنطقة العربية لم تكن قد انجزت بكامل حلقاتها، وبالتالي فإن وظيفة الدور الايراني مازالت مطلوبة حتى تحقيق الاهداف المرسومة والتي من اجلها اُدخلت ايران على الرافعة الاميركية. فيوم وُقِّع الاتفاق الاميركي – الايراني، كانت الحرب في اليمن في بدايتها،والصراع في سوريا محتدم ولم تكن قد وضحت صورته بعدما بدأت دفاعات النظام العسكرية والامنية تتهاوى ولم تنفع معه كل وسائط الدعم الايراني المباشر وغير المباشر بانقاذه الا بعد الاستنجاد بروسيا بطلب والحاح ايرانيين.وعندما وقع ترامب قرار الخروج من الاتفاق كانت الحرب في اليمن قد دخلت في «ستاتيكو»، وارتسمت في سوريا حدود النفوذ والتأثير في مجريات الاحداث على مساحة الجغرافيا السورية،واصبح الوضح يحكمه «ستاتيكو» ايضاً بانتظار ترسيم مخرجات الحل السياسي كما الحال في اليمن.
ان التوقيع الاميركي على الاتفاق النووي كما الخروج منه،املته الضرورات الداخلية الاميركية في السباق الرئاسي بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، ولم تملِه تبدلات جوهرية في الاستراتيجية الاميركية في التعامل مع الحالة الايرانية ودورها في النظام الاقليمي الجديد. فكلا الحزبين تحكمها سياسة الاحتواء للنظام الايراني وليس اسقاطه، كما ان كل المواقف التي اطلقت في العهدين الديموقراطي والجمهوري كانت تدعو الى تقويم سلوك النظام في ايران وليس اسقاطه. وهذا ان دل على شيئ فإنما يدل على ان العلاقات الاميركية – الايرانية ليست محكومة بعدائية اساسية وانما بخلافات حول حجم الدور وحجم النفوذ الذي تطمح له ايران،وتقديم نفسها شريكاً «مضارباً»،في اقتسام التركة السياسية التي خلفها انهيار النظام العربي.
ان اميركا التي تخطط لتركيب نظام اقليمي جديد تحفظ لايران موقعاً فيه كما «لاسرائيل» وتركي لا تعمل لاسقاط النظام وانما لاحتوائه ضمن حدود ماهو محدد له من نسبة في النفوذ السياسي، فيما ايران تريد نسبةً، تتوازن مع الدور الذي ادته والذي بدونه ما كان للنظام العربي ان يصل الى مرحلة الانهيار وتنفجر العديد من ساحاته على وقع صراع مدمر ضرب مرتكزات البنية الوطنية كما التماسك الاجتماعي.فايران والحالة هذه، تريد ان تقبض في كل الساحات التي تدخلت فيها بتواطؤ وغض نظر اميركي وصهيوني، من العراق الى سوريا ولبنان واليمن وصولاً الى فلسطين وكل ذلك لاجل تثبيت نفوذها كاحد اللاعبين الاقليميين في ادارة شؤون المنطقة، وهذا بطبيعة الحال لن تستطيعه الا باجازة اميركية، ولذلك فهي على استعداد للدخول في صفقات تحت الطاولة مع اميركا «واسرائيل» وصولاً الى مبتغاها واقرب امثلته ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة حيث كانت المفاوضات الفعلية بين ايران» واسرائيل» برعاية اميركية، لكن الاشكالية لديها انها تريد اكثر مماهو محدد لها او مقدر ان تحصل عليه.
واذا كانت ايران ادخلت الى الاميركي بالاستناد الى التسهيلات وغض النظر من اميركا «واسرائيل»، وقد استطاعت ان تؤدي دورها «بكفاءة عالية»، فما هو اذن المبرر للتصعيد السياسي والاعلامي بين الكيان الصهيوني والنظام الايراني حول الملف النووي،خاصة وان دور نظام طهران بما افرزه من نتائج حقّق ما لم يستطع العدو الصهيوني تحقيقه، لجهة تفتيت البنية المجتمعية العربية و تطييف الحياة السياسية والاجتماعية ورفع منسوب الخطاب المذهبي والجهوي والقبلي، وكلها عوامل ساهمت في اضعاف المناعة الوطنية والسياسية والمجتمعية العربية في مواجهة الاخطار المحدقة بالامن القومي العربي؟.
ان الاجابة على هذا التساؤل تحدده العلاقة التي يحكمها عاملان: الاول، التفاهم والتكامل الايراني والاسرائيلي حول استهداف البنية القومية العربية، والثاني، التعارض حول امتلاك ايران للسلاح النووي. بالنسة للاول، ان الطرفين يعتبران ان الفضاء العربي هو المدى الطبيعي لمشاريعهما التوسعية ومن مصلحتهما ان تكون الامة العربية في اضعف احوالها. وبالنسبة للثاني، فان امتلاك ايران للسلاح النووي سيفتح الطريق امام سباق تسلح يكون العرب فيه هم الطرف المقابل.
اليست هذه القاعدة هي التي دفعت الهند لامتلاك السلاح النووي بعد امتلاك الصين له، كما امتلاك باكستان بعد امتلاك الهند له، وقس على ذلك ؟
هذا بما يتعلق بالعلاقة التي تبدو في ظاهرها عدائية بين ايران والكيان الصهيوني، اما بما بتعلق بالعلاقة الاميركية الايرانية، فالامر المختلف، اذ بالنسبة لعلاقة اميركا بايران فهي محكومة بعاملين، الاول، ان اميركا تحفظ لايران موقعها في ترتيبات النظام الاقليمي الجديد، وهذا محل توافق، والثاني، ان ايران تريد حصة اكثر مما هو مرسوم لها وهذا موضع خلاف، وهذا الامر ستحسمه التطورات المستقبلية بعدما بدأت مسيرة اعادة توضيب الدور الايراني في حدود ماهو مرسوم له اميركياً وبالتفاهم مع الكيان الصهيوني.
مما لاشك فيه ان معارضة «اسرائيل»، امتلاك القنبلة الذرية هي معارضة جدية، لكن هذه المعارضة لا تنطلق من خلفية اقدام ايران اياً كان نظامها السياسي على استعمال السلاح النووي ضد « اسرائيل»،ونجزم ان دولة الكيان الصهيوني تعي جيداً ان ايران لن تستعمل السلاح النووي ضدها، لان ايران غير معنية بجوهر الصراع مع العدو الصهيوني. فمن يعتبر نفسه معنياً بهذا الصراع ببعده الايجابي لمصلحة قضية شعب فلسطين، لايعمل على ضرب البنيات الوطنية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين التي تستهدف اليوم بنيتها السياسية الوطنية والمؤشرات على ذلك كثيرة. فهل من يساهم في تدمير العراق وسوريا ولبنان واليمن والبنية الوطنية الفلسطينية هو فعلاً مع تحرير فلسطين ؟، او ان رفعه لشعارات الدعم هو لمجرد الاستثمار السياسي في القضية الفلسطينية؟. ان الثاني هو المبتغى الايراني وهذا ما تدركه اميركا جيداً ومعها «اسرائيل»التي اختبرت متانة العلاقات بينهما وجمعتهما المصالح المشتركة ابان الحرب على العراق وابرز امثلتها ماعرف يومذاك «بإيران غيت»، وبعدها توزع المهام بينهما في تنفيذ مخطط تصفية ضباط جيش العراق العسكري وجيش علمائه مضاف البه اعتراف ايران صريح بانه لولا مساعدتها وخدماتها وتسهيلاتها لما استطاعت اميركا احتلال العراق.
اذاً ماهو مبرر موقف «اسرائيل» الضاغط لعدم تمكين ايران من امتلاك سلاح نووي مع المعرفة بانه لن يستعمل ضدها ؟
ان المبرر الوحيد، للخوف الاسرائيلي من امتلاك ايران سلاحاً نووياً هو أنه سيكون سبباً لادخال المنطقة في سباق تسلح نووي، اذ في اليوم التالي لامتلاك ايران سلاحاً نووياً سيبدأ الاستعداد العربي لامتلاك هذا السلاح.وهذا ما يخيف «اسرائيل» ويقلقها. فمناحيم بيغن قال يوم كان رئيساً للحكومة بعد ضرب مفاعل تموز سنة ١٩٨١ في العراق، ان «اسرائيل»، تبادر لشن حرب على العرب في حالتين، اذا امتلكوا سلاحاً نووياً، او اذا حصلت وحدة بين سوريا والعراق. ولم يقل انها ستشن حرباً اذا امتلكت ايران سلاحاً نووياً علماً ان نبرة موقف نظام الملالي كانت عالية جداً ضد الشيطانين الاكبر والاصغر.
ان «اسرائيل» اقدمت على قصف النووي في العراق وهو قيد الانشاء ودون ان تطلق حملة صخب سياسي واعلامي، كما دمرت مؤسسة سورية هي قيد الانشاء ولم يكن كثيرون يعرفون انها منشأة للاغراض النووية، فيما يشغل التهديد والوعيد الاميركي والاسرائيلي مساحات واسعة جداً في الاعلام المرئي والمسموع والمكتوب، والمفاوضات لم تتوقف بينهم على اكثر من خط وفي اكثر من موقع. وبعيداً عن البروبغندا الاعلامية ورفع منسوب المواقف لتوظيفها في سياق المعارك السياسية الداخلية، فإنه لفهم طبيعة العلاقة الاميركية – الايرانية من جهة، والعلاقة الاسرائيلية – الايرانية من جهة ثانية يجب معرفة ما يعني المثل القائل:
«تحت الرغوة اللبن الصريح»