Site icon IMLebanon

هل من احتلال إيراني للبنان؟

 

 

حُكِم لبنان بين عامي 1990 و 2005 من دمشق لا بيروت، وكان فاقداً لقراره في الأمور الكبرى والصغرى، بدءاً من السياستين الدفاعية والخارجية، وصولاً إلى إقرار قوانين الانتخاب وتأليف الحكومات وتمرير التعيينات وإدارة البلاد في يومياتها وكل تفاصيلها. ولكن، هل يُحكم لبنان اليوم من طهران كما حُكم من دمشق؟ وأين أوجه الشبه والاختلاف بين المرحلتين؟

 

المشترك او الثابت في المراحل الثلاث التي عرف فيها لبنان نزاعاً داخلياً عمودياً وأفقياً هو فقدان الدولة لقرارها السيادي، ولكن مرحلة الوجود الفلسطيني اختلفت عن مرحلة الوجود السوري التي تختلف بدورها عن المرحلة الراهنة التي يُمسك فيها «حزب الله» بالقرار الاستراتيجي للدولة اللبنانية.

 

فالثابت إذاً منذ فتح الحدود اللبنانية للمقاومة الفلسطينية على أثر اتفاق القاهرة في العام 1969، يتمثّل في تغييب الدولة التي ما زالت مغيّبة، وقد تكون المرحلة الراهنة شبيهة سياسياً إلى حدّ كبير بمرحلة الوجود الفلسطيني، عندما تعطلّت الدولة وحافظ كل فريق فيها على وضعيته العسكرية-السياسية، وهو يحافظ اليوم على وضعيته السياسية في زمن «حزب الله»، فيما في الزمن السوري مُنع اي وجود سياسي وازن معارض للهيمنة السورية على القرار اللبناني.

 

فالمرحلة الراهنة التي يُمسك فيها «حزب الله» بالقرار الاستراتيجي للدولة هي أشبه بمرحلة الوجود الفلسطيني، مع فارق انّ طبيعة المواجهة سياسية لا عسكرية. فكان الوجود الفلسطيني يعطِّل الدولة غير انّه لم ينجح بالسيطرة على كل الواقع السياسي اللبناني على غرار النظام السوري الذي أمسك بكل مفاصل الحياة السياسية، الأمر غير القائم اليوم مع «حزب الله» الذي على رغم ترسانته الصاروخية و100 ألف مسلّح، لا يستطيع «قبع» قاضٍ ولا منع استقالة وزير ولا المونة على حليف ولا شطب فلان من المعادلة ولا إزاحة علتان من موقع، وبالتالي ينحصر دوره في التعطيل.

 

وفي موازاة تعطيل الدولة في المراحل الثلاث، فإنّ الاحتلال السوري أطبق على كل لبنان، واضعاً يده على كل تفصيل في حياة اللبنانيين، فيما المقاومة الفلسطينية اقتطعت، على غرار إسرائيل والمقاومة الإسلامية، مساحة جغرافية من دون سيطرتها على مساحة الجغرافيا اللبنانية. وبالتالي، إذا كان المقصود بالاحتلال رفض تسليم السلاح والالتزام بالدستور وتنفيذ أجندة خارجية، فإنّ هذا التوصيف ينطبق على الوجود الفلسطيني و»حزب الله»، ولكن هذا الواقع الاحتلالي يختلف عن الاحتلال السوري الذي حكم لبنان من دمشق.

 

وطالما انّ «حزب الله» يرفض تسليم سلاحه بحجة المقاومة، فلماذا تشخيص هذا الواقع او تسميته بالاحتلال الإيراني وعدم حصر المشكلة بالحزب؟ والسبب بسيط وهو انّ الحزب نفسه لم يخجل بالإعلان صراحة انّ تمويله وسلاحه من إيران، وانّ عقيدته ودوره وقراره إيراني، فضلاً عن انّ الحزب هو الذراع الإيرانية الأساسية، بل الذراع الأولى التي تمّ تأسيسها ترجمة لولاية الفقيه الإيرانية بنشر الثورة الشيعية، وبالتالي لا يوجد اي خطأ او تحامل او إهانة بتوصيف دور الحزب بالاحتلال الإيراني.

 

ولا شك انّ الاحتلال الإيراني يختلف عن الاحتلال السوري، إن لجهة انّ سيطرته ليست مطلقة، او لكون تواجده العسكري في لبنان ليس مباشراً عن طريق الجيش الإيراني، ولكن النتيجة في نهاية المطاف هي نفسها، فلا فارق بين التواجد المباشر او غير المباشر، لأنّ «حزب الله» هو إيراني المنشأ والعقيدة والتسليح والتمويل والقرار.

 

ومن هنا، ليس من الخطأ إطلاقاً توصيف دور «حزب الله» بالاحتلال الإيراني، إنما يعبِّر هذا التوصيف بدقّة عن واقع الحال، ولا علاقة للبنانية عناصر الحزب بالأمر، لأنّ عقيدتهم وقرار تسليحهم وتمويلهم وتمسّكهم بهذا السلاح واستخدامه هو إيراني بامتياز، ودور «حزب الله» اللبناني يشكّل الغطاء المطلوب لدوره الإيراني، حيث وجدت طهران منذ اللحظة الأولى لقيام ثورتها في العام 1979 انّ نشر هذه الثورة يكون من خلال خلق أذرع شيعية في كل الدول التي يتواجد فيها الشيعة، وعن طريق هذه الأذرع التي تتحرّك بقرار إيراني مركزي يتوسّع دور طهران الإقليمي ترجمة لعقيدتها بتشييع العالم بالقوة او الإقناع.

 

وإذا كان دور «حزب الله» لم ينجح بالإطباق على الواقع اللبناني على غرار الوجود السوري، وهو يشبه إلى حدّ كبير دور منظمة التحرير الفلسطينية، فإنّ الفارق الشكلي بين أدوار البعث والمنظمة والحزب، هو انّ الوجود الفلسطيني والسوري كان وجوداً خارجياً خلافاً لوجود الحزب اللبناني الطابع، وهذا الاختراق الإيراني للبيئة الشيعية اللبنانية جعل من المستحيل إخراج الحزب من لبنان على طريقة إخراج المنظمة والبعث، بل دفع بالرئيس الفرنسي مثلاً إلى التعامل مع الحزب كحالة لبنانية منتخبة من الشعب اللبناني، وهذا ما يجعل طهران تنفي تدخّلها بالشؤون اللبنانية الداخلية.

 

فلم يخرج «حزب الله» للقتال في سوريا والعراق واليمن وغيرها من الدول سوى لكونه أحد الأذرع الإيرانية، ولا علاقة له بلبنان سوى بهويته اللبنانية، ولكن هذه الهوية لا تحمي من يخالف الدستور والقوانين والأنظمة المرعية، وهو بوضعيته التنظيمية والأيديولوجية يصادر قرار الدولة ويمنع قيامها بمسؤولياتها الاستراتيجية، وأولويته ليست لبنانية وقراره إيراني بامتياز.

 

وانطلاقاً من هذا التوصيف، فإنّه يستحيل التمييز او الفصل بين إيران وأذرعها، ما يعني انّ الدور الذي يقوم به «حزب الله» هو دور إيراني، وبما انّ هذا الدور يمنع قيام الدولة وتطبيق الدستور تحوّل تلقائياً إلى احتلال، ومن الطبيعي والبديهي تسميته بالاحتلال الإيراني. وأما انزعاج الحزب من هذا التوصيف، هو بسبب خشيته من نقل المشكلة من كونها لبنانية – لبنانية كما عبّر عنها إيمانويل ماكرون، إلى مشكلة إيرانية تستدعي تدخّلاً وضغطاً دولياً على إيران لرفع يدها عن لبنان والكفّ عن استخدام أذرعها لزعزعة الاستقرار في المنطقة.

 

فالاحتلال الإيراني هو توصيف دقيق لدور «حزب الله»، ما يعني انّ مواجهته لا يجب ان تنحصر في الداخل اللبناني، بل من الخطأ حصرها في الحيز اللبناني، إنما تستدعي تعبئة مزدوجة داخلية وخارجية. فلم يخرج الجيش السوري من لبنان سوى بعد ان تقاطعت إرادة داخلية وخارجية على إخراجه، ولن يسلِّم «حزب الله» سلاحه سوى بعد ان تتقاطع إرادة خارجية على وضع حدّ للدور الإيراني، مع إرادة داخلية مصمّمة على تطبيق الدستور وقيام الدولة، وبقدر ما يتوسّع الاعتراض الداخلي على دور الحزب، بقدر ما يسرِّع هذا التوسُّع في وتيرة التدخّل الدولي لكفّ اليد الإيرانية ووضع حدّ نهائي لدورها المزعزع للاستقرار في لبنان والمنطقة.

 

ويخطئ من يتكئ فقط على التدخّل الخارجي من دون الإرادة الداخلية، كما يخطئ من يتكئ فقط على الإرادة الداخلية من دون التدخُّل الخارجي. فلم يتدخّل المجتمع الدولي لإخراج الجيش السوري من لبنان سوى بعد ان لمس حجم الإعتراض اللبناني على هذا الوجود، ولن يتدخّل المجتمع الدولي مع طهران لإلزامها على رفع يدها عن لبنان وإلزام «حزب الله» تسليم سلاحه، سوى بعد ان يكبر الاعتراض الشعبي ويتوسّع، والانتخابات النيابية يجب ان تشكّل استفتاءً ضدّ الاحتلال الإيراني عن طريق دور «حزب الله» وسلاحه.