IMLebanon

الشعب الإيراني إن حكى!

 

في الوقت الذي تُطالب روسيا بانسحاب قوات إيران وميليشياتها وحزبها الأثيري في لبنان وفالق «قدسها» المفلوق، من سوريا، وسيادة الرئيس بشّار «غائب» ومنتشٍ في انتصاراته على شعبه، وكأنّ صراع الدولتين على أرضه لا يعنيه، وفي الوقت الذي تتقهقر ميليشيات خامنئي في اليمن، ويتعثّر وجوده في العراق، ويرتبك حزبه «المنتصر» في لبنان، تدور المعركة الكبرى في طهران وفي المدن والأرياف الإيرانية بين نظام الفساد المُهَلهَل بلا «هِلاله» و«الهِلالي» في «هلهلته»، في تظاهرات عارمة وصاخبة.. وتكون يومية للمطالبة بتأمين مياه الشرب، بالتوازي مع «جفاف النظام». ولا ننسى صراعات ولاية الفقيه مع «ولايات» ترامب الأميركية ومع أوروبا، واكتشاف جديد لخلايا تخريبية تُخطّط لتفجير مؤتمر المعارضة.

 

معارك داخلية وخارجية: الداخلية يتولاها الشعب في ثلاثة محاور: الأزمة الاقتصادية، بعدما أدرك الريال الإيراني أدنى مستويات تساقطه إلى 90 ألفاً مقابل الدولار الواحد، وارتفاع منسوب الفقر والعوَز، يقابله اشتداد منسوب القمع. ولا تتوقف عند المطالب الشعبية المُلحّة، بل تدرك كيان النظام وكينونته، ووجوده، بعدما أثبت بالأرقام والمواقع، والممارسات هشاشة أهليته لإدارة أمور الدولة. أما الخارجية، ففي فقدان يتراكم أكثر لمواقعه وانحسار دراماتيكي لوجوده المسلّح، واحتلاله أجزاء من العالم العربي – الإسلامي، برغم تمنّعه عن الاعتراف بهذه الهزائم (شأنه في ذلك شأن هتلر في أيامه الأخيرة عندما كان «يتمنّع» عن الاعتراف بنهايته).

 

فهذا النظام كان يريد أن يسبق الزمن بفتوحاته من الخلف، لكن يبدو أنّ الزمن سبقه بحقائقه من الأمام ألف عام.

 

وها هو الرئيس الأسبق لإيران محمد خاتمي يخرج عن صمته ويفجّر الأزمة (برغم إخضاعه للإقامة الجبرية ومنعه من الاتصال بوسائل الإعلام..)، قارعاً نواقيس الخطر! «الفساد يُهدّد كيان إيران والثورة معاً» خلال اجتماع عقده الأحد الماضي مع مجموعة من التيار الإصلاحي «إنه النظام الذي أخفق في مكافحة الفساد وتحقيق العدالة»، «إيران كلها في خطر! والأولوية هي لإنقاذها».

 

وها نزول «البازار» ممثّلي سوق العمل وعصب الاقتصاد، وخروج خاتمي عن صمته، يكشفان الأدراك السفلية التي وصل إليها نظام خامنئي وفي كل المستويات: فقَدَ ثقة الشعب، التظاهرات تتجدّد في نواحي البلاد ومدنها، نهضت المعارضة المدنية الخارجية من كبوتها.. وفقَدَ ثقة العالم.. وفقَدَ الثقة بنفسه..

 

أبوكاليبس

 

وهي العلامات الأبوكاليبسية التي تشير إلى «بشائر» أفوله، المُتباطئ هنا والمُتسارع هناك.

 

كأنْ لم يبقَ له شيء سوى مرتزقته، من الحوثيين و«حزبه» في لبنان، وفلوله في سوريا.. وبعض خلاياه في العالم.

 

الغريب العجيب أنّ هذا النظام برغم تفكّكه الداخلي البائن ودَواله الخارجي، وزوال أسبابه، ما زال مُصرّاً على الاستمرار في تدخّلاته السافرة في بعض الدول العربية، يسابق فيها زمنه المسبوق، ليغطّي بها عوراته الأخيرة وأنفاسه المتوجّسة.

 

فالجموع وخاتمي والبازار وضعوا «الأصابع» على الجرح، بلا مواربة: إهدار ثروات البلاد لخدمة يوتوبياته الإمبراطورية، وازدياد نهبه للبلاد، وها هم يرفعون يافطة واحدة «أخرجوا من سوريا ومن لبنان ومن اليمن.. تخلّوا عن جنونكم الأمبراطوري المزيّف.. ارموا أوراق الماضي وعودوا إلى القرن الحادي والعشرين»، أي عودوا إلى واقع العالم بإنجازته وأشكال تطوّره، وعودوا إلى شعبكم وعالجوا مشاكله، ورمّموا نظامكم المهترئ: لا شيء. لا يريدون أن يفهموا. ما زالوا يصرّون على البقاء في سوريا وكأنّهم صدّقوا أنفسهم عندما كانوا يعلنون أنّها «ولاية إيرانية» وما زالوا يصّرون على الاستمرار في اليمن، وكأنّه ولاية أخرى، ليبعثوا بسليماني («هملر») خامنئي إلى لبنان للتدليل على «قوتهم» فيه.. فلا الأسد الذين أنقذوه من السقوط من ثورة شعبه، بقي معهم وها هم يهاجمونه في صحفهم وبرلمانهم ويهاجمون معه حليفتهم روسيا، ولا أوروبا ما زالت مستعدة لمواجهة موقف الولايات المتحدة من كسرها وإبطالها الاتفاق الأوبامي – الخامنئي النووي. لا صديق لهم. ولا ظهير. وحدهم. وحدهم، بكلّ ما تعني الكلمة يتمتّعون بمازوشية – سادية عضوية.

 

وهنا بالذات، يمكن فهم هذه الإشارات والمواقف وكأنّها من هذيانات النزع الأخير، أو من استفاقة الموتى بعد موتهم.

 

دولة كالدويلة

 

إزاء هذه الانهيارات الشمولية المدوّية لم يعودوا يمتلكون سوى سلاح دولة باتت تشبه الدويلات الإرهابية، ليقمعوا بها شعبهم، ويُرهبوا «أعداءهم»، قمع التظاهرات التي بدأت النساء تُشارك فيها بقوّة خالعات أزُر الإلزامات الفولكلورية – الولاياتية، وطقوسها الاستعراضية، وأدوارها المستوعبة؛ فصارت المعادلة رباعية: الشعب+ خاتمي+ البازار+ النساء اللواتي يضفن إلى الاحتجاجات نكهة الاعتراض الشجاع، ورمزية المواجهة المتضامنة، لكسر الحوائط التي رفعها النظام أمام النساء. لكن يبقى آباء ثورة 2009 في السجن وفي الإقامة الجبرية أي مهدي كروبي ومير حسين موسوي. صحيح أنّ الناس تجاوزوا انتفاضة 2009 (المتأثرة بانتفاضة الأرز بحسب مناضلين ميدانيين)، وأسبابها السياسية المتصلة بتزوير الانتخابات الرئاسية وإسقاط موسوي لمصلحة محمود أحمدي نجاد المُطارَد بدوره من الحرس الثوري وخامنئي. لكن الصحيح أيضاً أن لا ثورة تنتهي مطلقاً، بل تبقى في اندفاعاتها وطاقاتها في كل حركة تأتي بها. من هنا بالذات لقاء الثورتين الكبريَين الأولى وسمت الفساد السياسي والنكسة الديموقراطية، والثانية التي ضمّت مكاسب الأولى الشعبية، لتضيفها إلى لائحة مطالبها الاقتصادية والمعيشية من دون تغافل المطالب الديموقراطية، وما ينداح منها من آفاق أسبابها: التدخلات الخارجية التي هي السبب الأول في الأزمة بسبب تبذيرها مقوّمات البلاد وخيراتها في حروب عبثيّة ضد العالم السنّي العربي، وضدّ العالم كله.. ألا يحق للشعب الإيراني أن يتساءل، وقد صفَت أذهانه، بعد زوال الغشاوات النرجسية المبنيّة على دغدغة المشاعر «القومية» بالتوسعات الأمبراطورية للانتقام من العرب الذين هزموا إيران مرّتين وأكثر. صَفَت الأذهان وعرف الناس أن هذه الذرائع النرجسية (تفخيم الذات المذهبية)، المتمثلة بانتصارات تلصق بالشعب، ما هي سوى وسائل للتعمية تخدم ترسيخ الاستبداد الداخلي، وتحليل القمع، وطمس النهب والفساد وإفلاس الخزينة، بمعنى أنّهم يريدون نقل ضمائر الناس ورغباتهم وغرائزهم إلى الماضي السحيق، لتشويش الحاضر: إنها الألوهة (ولها أسبابها الغامضة)، في دفع العقول الى الماضي، لتمرير نزوات الحكام ونزعاتهم الإمبراطورية، وأين؟ في البلدان – الجيران، المحاذية لإيران: السعودية (رأس الحربة بالنسبة إليهم)، والإمارات، واليمن والكويت وسوريا.. كأنّ النظام يقول لشعبه مبتهجاً: انظروا! نحن نخقّق ثأرنا الألفي من هؤلاء – أعدائكم! وهنا يفتح الشعب مداركه، وانقشاعاته، ليتساءل: ولماذا يجب أن ندمّر السعودية ولبنان وسوريا، وإسرائيل مستفيدة من ذلك؟ كيف نُحارب العرب المسلمين وقد تداخلت حضاراتنا طويلاً في الأدب، والشعر، والعلوم، واللغة، والفقه، ونقتل أطفالهم، وندمّر مدنهم، لنرفع شعار «الموت لإسرائيل».. «محاربة» إسرائيل بالكلام، وغزو العرب – السنّة بالسلاح. بل ويتساءل الناس: ولماذا هذه الثنائية؟ يجيب بعضهم: لاتفاق ضمني مع إسرائيل على «إيران الكبرى»، لتتحقّق على أنقاض شعوب المنطقة.

 

الجهاد

 

يتساءلون أيضاً: «تتكلّمون على الجهاد» (وعندنا «فيلق القدس»)، وتتفرّجون على إسرائيل وهي تزرع المستوطنات، وتطرد الفلسطينيين من بيوتهم وتقتل الأطفال. أَسلاحنا الإيراني الإسلامي (الذي جزّأه النظام تجزئة مذهبية) أهو مصنوع لخدمة إسرائيل، من خلال إزالة كل مقومات الدول العربية حولها، وإضعاف المقاومة الفلسطينية داخل فلسطين؟ أم أنّه صُنع أصلاً لمذهبة عالم طويل عريض باسم معارك الأمس؟ لماذا نُشارك في قتل شخصية أعادت وطناً إلى السلم والعمران كرفيق الحريري ورموز ثورة الأرز (التي تأثّرنا بمظاهراتها التاريخية)؟

 

لماذا علينا نحن الإيرانيين المتحدّرين من أعظم الحضارات في الأرض أن نهدم حضارات الآخرين؟ لماذا علينا نحن المتعطّشين للديموقراطية أن نُشيطن كل نظام أو حزب ديموقراطي؟ لماذا نحن الذين ننشد الانفتاح (وقد انفتحنا في الماضي على العالم كلّه)، أن نقبل بدفننا في أقفاص الانعزال والقوقعة، ومحاربة كلّ ما يتعلّق بإنجازات العرب والعالم؟ لماذا يعيش المواطن الخليجي في رفاهيّة، ونحن نعيش في الفقر؟ لماذا يدخل العالم كلّ يوم في «ألفية» حداثية جديدة، ونحن نُزَجّ في مربعات الحروب والتخلّف، والتقهقر؟

 

لماذا علينا ألّا نتحالف سوى مع الأنظمة والدكتاتوريات المبرمة؟ لماذا لا نختار سوى القتلَة لنتحالف معهم؟

 

لماذا يجب محاربة الإسلام، وتحييد إسرائيل؟

 

وفي المناسبة: ها هي الدولة العبرية تحتل الحواضر الدينية الإسلامية، ونحن في الوقت ذاته، «نحتل إرادة الشعوب الإسلامية وأراضيها؟ فيا للمصادفة التاريخية! تتبجّحون كل يوم بإزالة إسرائيل من الوجود، لتعمدوا إلى محاولة إزالة العرب المسلمين من الوجود؟».

 

الجولان

 

وصلتم في سوريا إلى تخوم الجولان، وبدلاً من توجيه نيرانكم إلى المحتل، وجهتم نيرانكم إلى الفقراء والثوار وطلاب الحرية والعُزّل والأطفال. ألإسرائيل الكلام العنيف الفارغ، ولشعب سوريا القنابل العنقودية. والغاز والبراميل المتفجّرة؟ ألإسرائيل شعارات «المواجهة» و«الممانعة» وللبنان، هذا البلد الحضاري الذي لم يؤذنا يوماً، التدمير، و7 أيار، وشلّ الحياة السياسية، ولماذا تنتقمون من لبنان؟ وماذا فعل لكم؟ بل كيف يمكن أن تهاجموا أميركا كل يوم، وقد عقدتم معها (بوش الابن) تحالفات ضد النظام العراقي السابق، وضدّ شعبه؟ للسيطرة عليه وتقسيمه، وبِمَ نفعنا ذلك؟ أتعلنون معاداتكم لإسرائيل، وتلتقون معها على الدفاع عن نظام الأسد؟ ما زلنا نتذكّر يا خامنئي تصريح نتنياهو «سقوط النظام السوري كارثة على إسرائيل؟». ولِمَ يكون كارثة عليكم ما دام سقوطه كارثة على عدوِّ «الإسلام»؟

 

الشعب الإيراني في هذه اللحظة يعيش الصحوات الكبرى، ويستنفر الأسئلة الكبرى التي تفضح نظامه، وأشكال عدوانه على العرب.

 

والسؤال الأكبر: كيف تتقاطعون مع نتنياهو وهو يقسم فلسطين ويصادرها، ويرزعها بالمستوطنات، ويقتل أطفالها: بل لماذا أنتم دائماً على وفاق مع الديكتاتوريات الإجرامية، وتعادون كل ما هو «إنساني» وحضاري، ومتسامح، ومنفتح.

 

عال يا سيدي، لقد توّج نتنياهو «انتصار» حليفكم بشار الأسد، وها هي إسرائيل تُطالب بإخراجكم من سوريا، متعهدة (كما دائماً) بحماية نظام الأسد. لماذا؟ لأن نظام الأسدين لم يطلق رصاصة واحدة كما يقول نتيناهو على إسرائيل، لكن هذا النظام البعثي دمّر المقاومة الفلسطينية في لبنان بعونكم وكراهيتهم، ودمّر المخيمات الفلسطينية، واغتال مقاومين منهم، لكن أنتم يا حزب خامنئي، لماذا لم توجهوا طائراتكم وصواريخكم التي تتبجحون بأنها تصل إلى أقصى إسرائيل، إلى هناك، ووجهتهم كل قواكم وعملاءكم ضد جيراننا العرب السنّة!

 

بول شاوول