جاءت البداية باستنساخ الشعار السياسي الشيوعي (يا عمال العالم اتحدوا)، ذلك عندما تسلمت الثورة الإيرانية الخمينية السلطة، ولم يكد يمر عام، حتى قرّر الخميني فرض ولايته الدّينية المسلّحة على العالم عبر إنشاء مشروع تصدير الثورة، حيث كان يُسوّق للشعوب المستضعفة والمتعطشة للحكم الإسلامي، على أنه المخلّص والمُنقذ لهم من خلال شعاره (يا مستضعفي العالم اتحدوا)، ولكي يتم تنفيذ هذه المهمة، ويُنقذ الخميني هؤلاء المستضعفين، قام بإنشاء ما يُسمى «جيش المهمات العالمية» أو ما يُعرف بـ «جيش العشرين مليون مقاتل» و «جيش تحرير القدس».
ما حدث هو مواصلة الدعاية لشعار تحرير الشعوب المستضعفة من العبودية طوال فترة الحرب العراقية- الإيرانية (من 1980 إلى 1988)، حيث كان الإعلام الإيراني يُسوّق أن هذه المهمة تكون بدايتها الفعلية بعد إزالة دولة العراق بالقضاء على نظام صدام حسين. ففي عام 1981 تأسست «الطلائع المليونية» تحت اسم «قوة القدس» كوحدة عمليات خاصة تابعة للحرس الثوري الإيراني. وعند قيام حرب الخليج الأولى عام 1991 قام النظام الإيراني بتجميع كل الوحدات القتالية التي تعمل خارج إيران تحت تنظيم واحد أوكلت إليه مهمة القتال في الخارج، وأُطلق عليه اسم «فيلق القدس»، ومن هنا كانت ولادة هذا الفيلق الذي يُعتبر القوة العابرة للقارات والذراع العسكرية لتمكين الثورة الإيرانية من التوسُّع والتمدُّد والانتشار الإقليمي أو ما يُعرف بتصدير الثورة. تطورت الأحداث عندما تم تعيين قاسم سليماني قائداً للفيلق في1997، والذي أُدرج في لائحة المنظمات الإرهابية في العالم بعد قيامه بعمليات إرهابية في بغداد وبيروت وبرلين وباريس ولندن حيث أصبح يُهدد الأمن الدولي. هذا الفيلق الذي أوكل إليه الدستور الإيراني المهام السالفة، باتباع خطة دقيقة ومحكمة من خلال جمع المعلومات العسكرية والاستراتيجية التي تخص دول الجوار، والتصدي وتصفية كل من يعارض خط نظام ولاية الفقيه، والعمل على استقطاب كل الحركات الدينية والسياسية في العالمين الإسلامي وغير الإسلامي، وتدريب وتسليح وتمويل كل حركة أعلنت ولاءها لمرشد الثورة الإيرانية، كما هو حاصل في لبنان والعراق وسورية واليمن.
إذاً المهمة الرئيسية لفيلق القدس هي مسؤوليته المباشرة على كل العمليات الخارجية للحرس الثوري الإيراني، وكل المهام السرّية خارج التراب الإيراني، وبالتالي تكون وظيفته مخابراتية بامتياز. وعندما وصلت الثورة السورية عامها الأول تقريباً قام المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي بإصدار أوامر إلى فيلق القدس للقيام بأعمال إرهابية لحماية نظام بشار الأسد من السقوط، كما طالبه أيضاً (أي الفيلق) بتكثيف العمليات الإرهابية ضد الغرب وحلفائه الذين طالبوا برحيل بشار الأسد ودعموا المعارضة السورية.
ونقلت صحيفة «التلغراف» البريطانية حينها من مصادر استخبارات غربية أنّ خامنئي دعا إلى اجتماع سرّي مع مجلس الأمن القومي الإيراني في طهران لمناقشة تقرير حول نتائج قلب نظام بشار الأسد واستبداله بنظام آخر، والآثار التي ستترتب على إيران. وخلص التقرير الذي أشرف عليه علي خامنئي شخصياً إلى إبراز الخطوط الحمراء التي لا يُمكن للدول الغربية الدّاعمة للمعارضة السورية أن تتجاوزها بأي شكل من الأشكال في التعامل مع ما يجري على الأراضي السورية.
تبعت ذلك التصريحات الأخيرة لقائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، الذي أقرّ من خلالها بوجود مئتي ألف مقاتل إيراني منتشرين في خمس دول هي العراق وسورية واليمن وأفغانستان وباكستان. هذه التصريحات تأكيد قوي على أنّ فيلق القدس يؤدي فعلاً هذه المهام خارج التراب الإيراني تحت إشراف مباشر من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية خامنئي. وسبق أن دَعمت هذه الوحدة الأكراد في حربهم ضد صدام حسين. كما وَسع فيلق القدس عملياته إلى أفغانستان المُجاورة، أبرَزُها كان بمُساعدة عبد العلي مزاري رئيس حزب الوحدة الشيعي ضد حكومة محمد نجيب الله. ثم بدأ بتمويل ودعم التحالف الشمالي بقيادة أحمد شاه مسعود ضد حركة طالبان.
بالعودة إلى وثيقة 1998 لاتحاد العلماء الأميركيين نجد «التركيز الأساسي لفيلق القدس هو تدريب الجماعات الإرهابية الأصولية الإسلامية»، وينُص أيضاً على أن فيلق القُدس مُرتبط بمكاتب إيرانية لحركات التحرر، التي تُحافظ على بناء اتصالات مع مُنظمات المُقاومة الإسلامية تحت الأرض في أنحاء العالم الإسلامي. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2010، وفقاً لمركز أبحاث أميركي، تم توسيع مهمة فيلق القدس جنباً إلى جنب مع «حزب الله» في حملة جديدة من الهجمات تشمل هيئات دولية أخرى غير الولايات المتحدة وإسرائيل. سبق أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على 5 مسؤولين إيرانيين أكدت أنهم مرتبطون بـ «فيلق القدس»، واتهمتهم بدعم المتمردين الحوثيين في اليمن لإطلاق صواريخ على السعودية. وقال وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوشين إن المسؤولين الخمسة «مرتبطون بفيلق القدس» المكلّف العمليات الخارجية، وكذلك بالبرنامج الصاروخي الإيراني. وأن ممارساتهم أتاحت للحوثيين إطلاق صواريخ على مدن وبنى تحتية سعودية، واتهمهم بنقل أسلحة إلى اليمن لم تكن موجودة قبل اندلاع النزاع في هذا البلد. وجاء ذلك بعد يوم على إعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو استراتيجية جديدة لإدارة ترامب، حدّدت 12 شرطاً للتوصل إلى اتفاق جديد مع طهران، مهدداً إياها بأقوى عقوبات في التاريخ إن لم تبدّل سياساتها، ومتوعداً بـسحق عملاء طهران و «حزب الله» اللبناني في العالم. الحقيقة أن واشنطن واصلت ضغوطها، إذ كتب مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي، على موقع «تويتر»: «كما قال بومبيو، وكما أوضح ترامب: نحن مع الشعب الإيراني الذي يستحق أفضل من نظام يرعى الإرهاب في كل المنطقة، ويستحق أفضل من نظام يواصل تخصيص موارده لتهديد العالم».
ما هو واضح في ديباجة الدستور الإيراني التركيز على السعي مع الحركات الإسلامية والجماهيرية الأخرى لبناء الأمة العالمية وإنقاذ المحرومين في كل مكان على الأرض، وهذا في صميم الأهداف الرئيسية للجمهورية الإسلامية. فالمادة 53 من هذا الدستور تشير إلى التزام إيران بإقامة حكومة الحق والعدل في أرجاء الأرض، وحماية الكفاح الشرعي للمستضعفين ضد المستكبرين في أي مكان في العالم.
من هنا نجد أنّ الدستور الإيراني أعطى للحرس الثوري مهمة إقامة هذا المشروع وتوسيع هذه الحاكمية لقانون الله، كما يدّعون، في أرجاء المعمورة كافة. وبما أنّ فيلق القدس هو الفصيل الأساسي في منظومة الحرس الثوري فهو إذاً المؤسسة العسكرية المخوّلة دستورياً القيام بهذه المهمة، من أجل نشر حاكمية الله في الأرض وبناء مجتمع عالمي موحد بزعمهم. وانطلاقاً من هذه المرتكزات الدستورية التي يستند إليها فيلق القدس، يحقُ لإيران أن تتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة كما هو حاصل الآن في العراق وسورية ولبنان واليمن. وإضافة إلى ما سبق فإن «فيلق القدس» مكلّف بتصفية وملاحقة كل معارض للنظام خارج الحدود الجغرافية الإيرانية.
سيظل هذا الفيلق الدويلة، يهدد دولاً في العالم، كما قال رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني الذي سبق أن صرّح بأنّ تدخُّل قوات فيلق القدس الإيراني في المنطقة جاء بهدف التصدي للإرهابيين وأنّه لولا هذا الدور لكانت أميركا تواجه عشرات الحوادث التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس. ومن خلال هذه التصريحات ومن الواقع الملموس على الأرض، يتّضح جلياً أنّ فيلق القدس هذا يُمكنه القتال في كل بقعة من بقاع الأرض- دفاعاً على مصالح إيران وحلفائها الغربيين وعلى رأسهم أميركا وإسرائيل، إلا مدينة القدس التي سُمي على اسمها وبهدف تحريرها كذباً وزيفاً وبهتاناً… فمتى تتوقف هذه المسرحية الإيرانية العالمية «فيلق القدس»؟