عندما أتناول مسألة الدور الايراني وآثاره السلبية على المنطقة، من الواضح أنّني لا اقصد دور الشعب الايراني، الذي أثبت على مدى عقود من الزمن، أي قبل حلول غضب النظام الثوري الايراني عليه، بأنه من أنجح الشعوب انتاجاً وتطوراً علمياً واجتماعياً، اذ أنّ هذا الشعب كان يعيش نمواً اقتصادياً مهمّاً، إنعكس حينها بإنشاء جامعات رفيعة المستوى ومستشفيات متطوّرة وقطاع صناعي متميّز بتقنياتٍ عالية. وما أقصده أيضاً، بانتهاء الدور الايراني، أي نهاية الحاجة الدولية لدور النظام الثوري الايراني، الذي صادر قرار الشعب الايراني بعد سقوط الشاه، وهمّش نهضته التي كانت تعدّ قيمة مُضافة لتعاون الشعوب في المنطقة سلمياً وحضارياً، والذي يقوده حفنةً من الرجال المُعقّدين والمعزولين والفاقدين لأدنى مفاهيم الانسانية الحرّة، قيادات تعيش ذهنية حقبات من تاريخ الانسانية، ولّت منذ زمن ولم تبق الا في عدد قليل جداً من الدول، وحلّ مكان دمارها وعدائيتها، القيم الانسانية الحرّة.
وبنظرةٍ تقييميّة لما حلّ بأوضاع الشعوب التي وقعت تحت سيطرة هذا النظام، نجد أنّ الفرق شاسع جداً بين ظروفها السابقة وظروفها التي استجدّت مع تسلّل الافكار الايديولوجية اليها، إلى درجة أنه لا يمكن التصديق أنّ الشعب ذاته قد تتغيّر أحواله وتتراجع اوضاعه إلى هذه النسبة الكبيرة. فبالرغم من التطوّر العلمي والتكنولوجي الذي شهدته الانسانية في الحقبة الاخيرة، فإنّ الشعوب التي سقطت تحت نير هذه الايديولوجيا المُتخلّفة، خسرت كل الفرص المتاحة لتطوير ذاتها وإلحاق نفسها بالمجتمعات الاخرى، وأوضح مثالين على ذلك الانعكاس في المسار، ما حلّ بالشعبين الايراني واللبناني، بخسارتهما للمميّزات وللطاقات وللخصائص التي كانت زاخرة في دولتيهما.
بالغوص الدقيق في تفاصيل وأحداث مسارات دول وشعوب منطقة الشرق الاوسط خلال الفترة المُمتدّة من السبعينات وحتى أوقاتنا هذه، يُلاحظ أنّ النظام الثوري الايراني قد حقّق مع بداياته سدّاً منيعاً أمام انتشار المدّ الشيوعي نحو منطقة الخليج العربي ومجتمعات دوله، ولكنه شكّل لاحقاً الأذى الاكبر على تطور هذه الدول، والتهديد الفعلي لأنظمتها، والعائق الأكبر للتغيّر الايجابي الاجتماعي فيها. وفي النهاية بات بتهديداته هذه، الخادم الاكبر لمشروع اسرائيل التطبيعي، والمُعبّد للطرق التجارية أمام الشركات الاسرائيلية لغزو الأسواق الخليجية الغنية. فإنّ كان لا دور مرسوماً لهذا النظام، فقد أخذ هو دوراً له، وبخبثه أخفاه خلف ايديولوجية، رفع لها شعاراتٍ مذهبية من السهولة ادخالها في الوجدان الاسلامي والعربي، ووضع لها عنواناً برّاقاً، «تحرير القدس». ولكن التهديد الذي شكّله للأنظمة الخليجية دفعها، دفاعاً عن نفسها، لعقد الاتفاقات والتحالفات منعاً لسقوطها فريسةً بيده. بمشروعه التوسّعي، خدم مشروع غيره التطبيعي، وبتخلّفه الفكري رسم الخطوط الحمر بين شعوب المنطقة، فمنها من حصّن نفسه بوجه أذرعته، فتحرّر منها، ومنها من لم يكتشف حتى الآن، مدى المآسي التي سيمرّ بها إن لم يتحرّر من براثنه، في أقرب وقت ممكن.
إنّ عواقب التدخّلات العسكرية والسياسية غير الحكيمة للدول الكبرى في المنطقة في السنوات العشرين الماضية، فتحت الابواب لتسلّل الأعمال الأمنية والعسكرية للمشروع الايديولوجي الايراني، فتعاظمت أضرار هذه الاخطاء وصولاً إلى الوضع الحالي، حيث أصبحت نتائج هذه السياسات تُهدّد السلم العالمي. فالتمادي بالتغاضي عن أعمال النظام الايراني والسكوت المُريب عن أعماله العدوانية، قد خدماه إلى الحدّ الذي سمح له بمحاولة تحدّي حسابات من سهّل له ذلك، فهنا، انتهى دور النظام الايراني، ببدء الحرب لفصله عن أذرعته، وها هي ايران تُهرّب قياداتها قبل قدوم الضربة العسكرية الاميركية، وقد حدّدت مُسبقاً وجهة ضرباتها العسكرية. فتهريب النظام الايراني لقياداته، وإن كان وقتياً أو صورياً وتكتيكياً، يعني شيئاً وحيداً، انها لا تستطيع أن تحمي أذرعتها، وأنّ دور هذه الاذرع بدأ ينتهي، فالمشروع الايراني من دون الاذرع يعني أنّ مفعوله بدأ ينتهي.