لم يكد حِبرُ الاتفاق الإيراني السعودي يجفّ حتّى أطلق الثنائي الشيعي وحلفاؤه حملة ضارية لتثبيت ترشيح سليمان فرنجية وفرضه على سائر القوى السياسية وتحويله من صقرٍ من صقور المحور السوري- الإيراني إلى مرشّح التوافق والسلام والمؤهّل لاستعادة العلاقات العربية وتنفيذ الإصلاحات والإنقاذ الاقتصادي والمالي. ومع تواصل هذه الحملة شهدنا استنفاراً سياسياً وإعلامياً شاملاً وإستباقياً لمنع أيّ طرحٍ آخر ولفرض مسارٍ إنتخابي متسارِعٍ يؤدّي إلى عقد جلسة نيابية توصل فرنجية إلى قصر بعبدا.
هكذا، اختار رئيس مجلس النواب نبيه بري إطلاق مرافعته التسويقية اللاّذعة والحادّة لفرنجية عقب استقباله السفير السعودي في لبنان وليد البخاري بعدما استخدم أسلوب «البلطجة» السياسية تجاه النائب ميشال معوض عندما استعمل التوصيف «الأنبوبي» لمقاربة ترشيحه الرئاسيّ، بينما تتواصل حملة فرض فرنجية من خلال إطلاق سيلٍ لا يتوقف من المواقف والموجبات القاصرة لتبرير ابتزاز القوى السياسية والتلاعب بالتوازنات النيابية حتى الوصول إلى تأمين الأصوات اللازمة لفرنجية بجميع أشكال الضغط والمناورة.
يستكمل «حزب الله» المشهد فيُصِرُّ على إلباس الجندي في معسكره لَبوسَ المُحاوِرِ ويستمرّ في وقاحة غير محدودة في الحديث عن أنّ سليمان فرنجية هو مرشّحٌ توافقي وأنّ على الآخرين التحاور معه للموافقة على قلب الحقائق وتشويه الوقائع.
أمّا ثالثة الأثافي فتمثّلت في إعلان النظام السوري تكليف سفيره السابق في لبنان علي عبد الكريم علي، الذي خرج من السفارة باتهامات من مؤيدي النظام بالفساد، بإدارة «الملف اللبناني»، في محاولة لإستعادة زمن هيمنته واستصغار شأن الدولة والكيان اللبنانيين، بالتوازي مع زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو وترويجه المُبالغ فيه لتوسيع القواعد الروسية في سوريا.
يريد الأسد زجّ أنفه في ملف الرئاسة اللبنانية وهو المحتلة بلاده من خمسة جيوش، في تخادمٍ واضح بينه وبين «حزب الله» في لبنان، لإضفاء مناخ سياسي يوحي بسيطرة الممانعة وحتمية انتصارها، في زمن الاتفاق الإيراني – السعودي، وذلك في إطار التضييق على المعارضة السيادية وإخضاعها لابتزازٍ سياسي عنيف، وتحميلها مسؤولية تأخير انتخاب رئيس الجمهورية وإطالة عمر الأزمة.
لا تزال معايير الممانعة مبنية على تكرار تجربة فرض ميشال عون بالاستناد إلى تشديد عوامل الضغط الداخلي والمراهنة على «ليونة» السعودية وخضوعها للضغوط الفرنسية المستميتة لفرض فرنجية، لكن فات هؤلاء أنّهم أمام معارضة لم تعد تستطيع أن تخسر شيئاً لأنّ البلد انهار، وباتت تعرف جيداً أنّ التنازل هذه المرة يعني نهايتها الحتمية، وفاتهم أنّهم أمام قيادة سعودية تتلاعب بالتوازنات الدولية مع الكبار وتصنع سياساتها المستقلة وهي تتقدّم على إيران بأشواط شاسعة داخلياً وإقليمياً ودولياً.
يمتلك «حزب الله» وشركاؤه إمكانية التعطيل في البلد، وبإمكانهم البقاء في مواقع التحكّم السياسية الراهنة، لكنّهم بالتأكيد عاجزون عن إنقاذ الكيان وأوهن من أن يمتلكوا القدرة على تسيير الدولة بمؤسساتها الدستورية والإدارية والاقتصادية، فقد أثبتت التجربة أنّهم أفشل مَنْ حكم لبنان في تاريخه كلّه، وأنّ البلد سقط عندما أزال «حزب الله» الخطّ الفاصل بينه وبين الدولة، فاحتلّ القصرَ الجمهوري وسطا على رئاسة الوزراء وواصل تحكّمه بمجلس النواب.
أثبت الاتفاق الإيراني- السعودي أنّه ليس بإمكان طهران الاستمرار في مشروعها لتصدير ثورتها وفرض احتلالها على الدول العربية، لأنّ فرصتها الذهبية التي نالتها في ظلّ إدارة باراك أوباما انتهت مفاعيلها، وقيامُها باجتياح الدول وإنشاء الميليشيات وفرض الأمر الواقع لن يكون ممكناً إلاّ بأثمانٍ باهظة لم يعد الإيرانيون قادرين على دفعها.
يتلازم الانهيار الشامل مع دخول إيران إلى الدول العربية، وأصبح واضحاً أنّه لا قيامة للعرب إلاّ بخروج إيران بسياساتها العسكرية التفجيرية للمجتمعات العربية، فقد انتهت مراحل التمويل المتوازي للمناطق الواقعة تحت السيطرة الإيرانية، فإذا كانت هذه المجتمعات تريد البقاء تحت هيمنة نظام الوليّ الفقيه، فليقم هذا النظام بتمويل حكمه لها.
نعتقد أنّ محاولات تقمّص الممانعة للموقف السعودي والتذاكي في تفسيره للتمسّك بفرنجية هو الردّ الأوليّ لجماعة إيران على طهران والرياض، وهو ردٌّ مكشوف لا يصلح للنقاش، وسيطول الانتظار قبل أن يفهموا أنّ بضاعتهم مردودة إليهم.