في العراق، كان الهاجس دائماً أَلّا يتحوَّل الاحتقان السياسي والطائفي والاقتصادي- الاجتماعي إلى فتنة. وتماماً، هذا هو الهاجس في لبنان. واليوم، إذ بدأ الاحتقان العراقي ينزلق إلى انفجار أمني، هل يصحّ أن يُرفَع منسوب القلق في لبنان أيضاً؟
في أذهان اللبنانيين دائماً، أنّ أي حدث سياسي أو أمني يقع في العراق، قد يكون إشارة إلى أمر ما مشابِهٍ سيحدث في لبنان. والعكس صحيح من جهة العراقيين. ففي الغالب، تكرَّرت المشاهد اللبنانية في العراق، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، بالتزامن أو بفوارق زمنية قصيرة.
ربما ساهمت في ترسيخ هذه الفكرة في الأذهان مقولةٌ منقولة عن الرئيس كميل شمعون، من زمن حلف بغداد، ومفادُها أنّ لبنان يكون في خير إذا كان العراق في خير. وفعلاً، أظهرت التطورات خلال عقود من الزمن أنّ هذه المقولة فيها الكثير من الصواب، بسبب التشابه أو التماثل في العديد من العناصر بين البلدين.
تركيبة العراق الطوائفية مشابهة لتركيبة لبنان، والنظام «الفدرالي الممسوخ» قائم هنا وهناك. وفي البلدين، ترعى النظام طبقة سياسية موغلة في الفساد، أوصلتهما إلى الانهيار شبه التام، في المال والقطاع المصرفي والطاقة، على رغم أنّ العراق ينام على واحد من أكبر مخزونات النفط في العالم. وأما لبنان، فالفساد هو الذي يُبقي البلد بلا كهرباء نهائياً، وقد حال حتى الآن دون الاستفادة من مخزونات الغاز الهائلة في المتوسط، منذ سنوات.
في العراق، وعلى مدى عامين أو ثلاثة، جرت محاولات في الشارع للضغط من أجل التغيير، لكنها تحولت صدامات أمنية. وأما الانتخابات التشريعية الأخيرة فجرى إحباط نتائجها وافتعال أزمات دستورية وسياسية متشابكة للحؤول دون تغيير الستاتيكو السياسي القائم.
وكذلك، في لبنان، لا قيمة للتغيير الجزئي الذي حملته الانتخابات النيابية في أيار الفائت، فيما الآتي أزمات متشابكة بين مواقع رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي. وفي البلدين، متاريس سياسية متقابلة، ولا يتنازل أي طرف، وليس في الأفق أي تسوية محتملة.
والأهم هو أنّ طبيعة الصراع الخارجي هي إيّاها في العراق ولبنان، وأساسها المواجهة التي تخوضها إيران مع الولايات المتحدة ومع العرب، ومع إسرائيل التي تنافسها على النفوذ والموارد الإقليمية.
للعراق حدود مع إيران، والشيعة فيه هم الغالبية. في المقابل، هذا البلد هو عمق الخليج العربي الحاضن الأكبر للسنّة، وهو نقطة ثقل استراتيجي لا بديل منها للولايات المتحدة، لكونه يحتوي أكبر مخزونات النفط والغاز في العالم، وهو الحاجز الطبيعي لكبح التمدُّد الصيني نحو المتوسط.
وكذلك، في لبنان، النفوذ الأقوى هو اليوم للطائفة الشيعية، حليفة إيران. ومن خلال هذا النفوذ، أُتيح لطهران أن تخوض المواجهة على الحدود مع إسرائيل والولايات المتحدة وخصومها العرب، وأن تمارس «الفيتو» على أي تسوية لا تراعي مصالحها.
وفي عبارة أخرى، تُمسك إيران بالعراق لكونه البلد الأقرب إليها في منظومة الهلال الشيعي، لكنها أيضاً تُمسك بلبنان، الواقع على طرف الهلال، بفضل القوة التي يتمتع بها الحلفاء، ولكن أيضاً بفضل ما تمتلكه من حضور وأوراق في سوريا التي تشكّل جسراً حيوياً في الهلال.
والأزمة الدستورية- السياسية التي يتخبَّط فيها العراق منذ عام، حيث تتعثر المؤسسات الدستورية ويسود التوتر والإرباك، هي في الدرجة الأولى ترجمة للمواجهة التي تخوضها إيران. وكذلك، إنّ هذا الصراع بين إيران وخصومها هو جوهر الأزمة الدستورية التي يقع فيها لبنان حالياً، والتي تتمثّل بتعثر تشكيل الحكومة وترجيح تعثّر الانتخابات الرئاسية.
وعلى رغم مرور 10 أشهر على الانتخابات التشريعية في العراق، ما زال مجلس النواب عاجزاً عن تشكيل حكومة ائتلافية، أو انتخاب رئيس للجمهورية. وإذ بدأت الأزمة آنذاك باشتباكات عنيفة في بغداد، وبمحاولة اغتيال لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، فإنّ ما يثير المخاوف اليوم هو العودة إلى لغة العنف في العراق، فيما آفاق التسويات السياسية مسدودة تماماً.
ولذلك، بعد التطورات التي شهدها العراق، في أعقاب إعلان السيد الصدر انسحابه من الحياة السياسية وما تلاه من صدامات، ثمة خوف في لبنان من تداعيات خطرة للانسداد السياسي والدستوري الذي سيبلغ مداه بعد شهرين. وكل عناصر الانهيار أو الانفجار موجودة في لبنان كما في العراق.
قد يكون من حظّ البلدين أن تتحقق انفراجات على المستوى الدولي- الإقليمي يستفيدان منها لتحقيق حدّ أدنى من الاستقرار. وفي الدرجة الأولى أن يتمّ توقيع اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران. ولكن، إذا تعثرت التسويات في الخارج، فليس مستبعداً أن يُقبل العراق على خريف صعب… ولبنان أيضاً.