إجرام السلطة مستمر.. وشلل المجتمع الدولي أيضاً
أربعة أشهر على انفجار مرفأ بيروت في 4 آب مرّت ثقيلة على أهالي الضحايا والجرحى والمتضررين، وعلى البلد المأزوم بطبقته السياسية أيضاً. لا شيء يدعو للتفاؤل، ما يعزّز القناعة بأن الانهيار والتجويع والإفلاس و«تهشيل» الشعب هو الهدف الذي تريده هذه المنظومة، وليس نتيجة حتميّة لجشعها وفسادها وفشلها فقط.
انتهى الكلام أو كاد، النقد والتشهير والذمّ والإدانة ما عاد ينفع، نحن أمام طبقة وقحة، لا تستحي، ولا تخجل، ولا تشبع، ولا ترأف.. أمام عصابة خطفت البلد واتخذت شعبه رهينة وفرّطت بسيادته، ولا تريد الاعتراف بأن تغييرها ممرّ طبيعي لحل أزمات هذا البلد وفكّ عزلته واستعادة الثقة به.
أكثر من 120 يوماً مرّت والتحقيق بانفجار بيروت غير منجز، والأسئلة والشكوك تكبر؛ من أدخل أطنان نترات الأمونيوم إلى المرفأ، ومن خزّنها على مقربة من المدنيين خلافاً لكل القوانين، ومن استفاد وغطّى وضلّل، من عطّل كاميرات المراقبة في العنبر المشؤوم، ومن يستمر في عرقلة التحقيقات لتمييع القضية؟ إنه التقليد اللبناني القديم و«العريق»، والفاضح، والفاجر مع كل الجرائم التي استهدفت أمنه واستقراره وشخصياته وصولاً إلى عاصمته ومرفئه وآلاف الأبرياء.
مفارقات مضحكة مبكية تظلل الوضع الداخلي؛ شركة التدقيق المالي «الفاريز ومارسال» تقرر وقف متابعة التحقيق الجنائي في مصرف لبنان، في وقت تناقش اللجان النيابية مع مصرف لبنان رفع الدعم، وفيما يقول الحاكم رياض سلامة، بالفم الملآن، إن أموال المودعين موجودة تقول المصارف إن المصرف المركزي يحتجزها!، وفيما الطبقة السياسية في بيروت تخطط لنهب ما تبقّى من أموال الناس المتبقية في مصرف لبنان، يستنفر المجتمع الدولي في باريس ليجمع أموالا لمساعدة اللبنانيين، وأغلب الظن أن المطاف سينتهي بأي مساعدات، مهما وضعت الضوابط لصرفها، في جيوب الفاسدين الناهبين، وأمام سمع العالم وبصره.
مؤتمر الدعم والتأنيب
الأهم في المؤتمر الدولي لدعم لبنان ليس الأموال القليلة التي جمعها تحت العنوان الإنساني، بل مؤشرات أخرى رافقت ذلك، ومنها:
يأس باريس والأسرة الدولية من تجاوب المنظومة السلطوية التي تخطف لبنان من الإقدام على الإصلاح من خلال تشكيل حكومة مستقلين أخصائيين تتولى عملية الإنقاذ المالي والإداري.
تكرار التأكيد بأن المجتمع الدولي ما عاد يثق بأكاذيب الطبقة السياسية في لبنان التي انقلبت على تعهداتها أمام الرئيس ماكرون، وعادت لتمارس ألاعيبها وفسادها في الداخل غير مبالية بالوضع المزري الذي وصل إليه البلد والشعب، وتمسك العالم بأن المدخل لإعادة انخراط لبنان في المجتمعين العربي والدولي تغييرات كبيرة وجذرية معروفة وواضحة وينتظرها العالم ليبني عليها.
عدم حماسة العرب والمؤسسات الدولية لدعم لبنان، وهو موقف يستبطن اتهاما للسلطات المتعاقبة بإفلاس البلد ونهب المساعدات والقروض والمنح، وتحميلها مسؤولية انهيار لبنان اقتصادياً ومالياً واجتماعياً ومعيشياً، والتسبّب أيضاً بكشف البلد على مزيد من العقوبات والعزلة وتردي العلاقات مع الخارج، هنا يمكن الإشارة إلى قرار الإمارات العربية المتحدة بوقف منح الـتأشيرات إلى اللبنانيين، فبالرغم من خطورة هذا القرار التزم المسؤولون، وخصوصاً وزارة الخارجية ورعاتها صمت القبور تجاهه، وهو الصمت المعيب ذاته الذي التزمه المسؤولون جميعاً تجاه تكرار الاعتداءات الحوثية على أمن المملكة العربية السعودية، مع ما يعنيه كل ذلك من كارثة حقيقية على اللبنانيين المقيمين والمغتربين الذين يدفعون ثمن خيارات طبقة سياسية فاسدة، وناهبة، ومتواطئة، ومتورطة.
لا حاجة لحكومة!
في الأثناء، تتواصل التعقيدات الداخلية أمام ولادة حكومة جديدة، وسط تقاطع المعلومات بأن لا جديد سوى الكيديات والنكايات والضحك على الشعب، والتذاكي على المجتمع الدولي. لكن ثمة من يرى أن لا حاجة لحكومة جديدة، فهناك المجلس الأعلى للدفاع، وقراراته المالية والأمنية والكورونية، التي تحاكي أوهام البعض بتغيير طبيعة النظام اللبناني إلى رئاسي أو إمبراطوري أو عائلي ربما. القرارات الأخيرة لهذا المجلس، جاءت متجاوزة صلاحياته ودوره وجعلت منه وكأنه مجلس حكم أعلى، ووصيّاً على السلطات والحكومة. لا يفترض السؤال هنا عن الدستور ومدى مخالفته، فما يجري منذ بداية هذا العهد النحس هو الإمعان بتجاوز الدستور وتهميشه وتحميله ما لا يحتمل أو اللعب على منطوقه خدمة للحسابات الشخصية والمصلحية والكيديات، هكذا تصبح الأسئلة والإدانات والتساؤلات في غير محلها، لأن الدساتير، ببساطة، تحتاج رجال دولة يطبقونها.
شباب لبنان الجديد
خلاصة المشهد القاتم؛ لا حكومة، لا تقدم بالتحقيقات في كارثة المرفأ، لا عودة للمساعدات الخارجية، بل تشدد في كل الملفات وربما المزيد من العقوبات، لا اهتمام داخلي بقضايا الشعب وهمومه.. حلقة سوداء مفرغة، عبّرت عنها صحيفة «لوموند» الفرنسية عشية مؤتمر الدعم في محاولة لاستشراف احتمالات الأزمة، بالقول «لبنان لم يعد دولة. تحالف كارتيل رجال الأعمال مع الأحزاب مع العائلات التقليدية مع أمراء الحرب طوّر «أدوات» تهدف إلى عرقلة أي خطوة تضر بمصالحه»، وإذا كان هذا الكلام واضحاً ومفهوماً على المستوى الداخلي منذ أزمة ليست بالقصيرة، فإن المطلوب أن يعي المجتمع الدولي أن المدخل الطبيعي والإلزامي لإعادة لبنان إلى محيطه العربي وإلى الأسرة الدولية هو تحييد هذا الكارتيل السارق والناهب والمجرم، وهذا الأمر صعب، أو شبه مستحيل في الحسابات الداخلية وفي ظل الظروف والمعادلات الراهنة.
ثمة نقطة ضوء في سواد النفق المظلم، تمثلت بفوز المستقلين في عدد من الجامعات الخاصة، فوزٌ مستحق لا يمكن فصله عن مستجدات المزاج العام في لبنان بعد ثورة 17 تشرين، وإعلان إفلاس وفشل الأحزاب والقوى السياسية في إيصال هذا البلد إلى حداثة القرن الحادي والعشرين، وأزمنة الذكاء الاصطناعي وتحدي المستحيل.
أثبت المستقلون من شابات وشباب الجامعات أن الوقوف بوجه الأحزاب والضغوطات والاتهامات والاعتداءات وكل المتاجرين بمستقبلهم.. ممكن، وأنهم قادرون على صناعة الفرق لمصلحة لبنان وسيادته وتميّزه، وأن التغيير، وإن كان صعباً وشاقاً، ممكن. هؤلاء يمثّلون روح الثورة وصورة لبنان الجديد الآتي لا محالة.