يستمر العدوان الاسرائيلي على غزة بكل بشاعاته الصارخة، إنما من دون أن يصنع لا النصر المطلق الذي يحلم به بنيامين نتنياهو ولا القدرة على حماية «الانجازات التكتيكية» المفترضة، ما يعزز مشروعية السؤال الآتي: كيف لِمن يواصل الغرق في مستنقع غزة المحاصرة أن يشن حرباً شاملة على لبنان كما يهدد قادة الكيان الاسرائيلي من حين الى آخر؟
اذا كان «حزب الله» يخوض عبر جبهة الجنوب منذ 8 اوكتوبر معركة إسناد غزة لأسباب أخلاقية واستراتيجية، فإنّ غزة بدورها، والتي تُراكم الانجازات الميدانية، اصبحت أيضا في موضع إسناد للبنان، بحيث باتت العلاقة تبادلية والمكاسب مشتركة وليست أحادية الجانب.
هذه المعادلة مستقاة من وقائع الارض الموثّقة بالصوت والصورة، وأهمها استمرار حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في الصمود والثبات في مختلف أنحاء القطاع بعد مرور نحو ثمانية أشهر على العدوان، ما يحول على الاقل دون توافر أحد الشروط الاساسية لأيّ هجوم إسرائيلي واسع ضد لبنان، وهو الانتهاء من غزة للتمكّن من الاستدارة الكاملة نحو لبنان. ذلك أنّ الاحتلال، ومهما كانت قوته المفترضة، لا يستطيع خوض حربين كبيرتين على جبهتين في وقت واحد، خصوصاً ان الموجود على الجبهة الأخرى هو «حزب الله» بكل ما يملكه من قدرات تعرفها تل أبيب جيدا.
وبهذا المعنى، يصح الاستنتاج بأنه كلما واصلت «حماس» وباقي فصائل المقاومة خوض القتال وحرب الاستنزاف ضد جيش الإحتلال داخل أزقة القطاع، كلما أصيب هذا الجيش بمزيد من التخبط والانهاك. وبالتالي، ستغدو فكرة أن يشن عدوانا كبيرا على لبنان أشد صعوبة وتعقيدا.
ومن هنا، يعتبر المقتنعون بـ«تلازم المسارين» ان غزة تحولت خط دفاع متقدماً عن لبنان، بمقدار ما انّ جبهة الجنوب تشكل خط مؤازرة لها من خلال الضغط العسكري على الكيان الاسرائيلي عبر خاصرته الشمالية لِدفعه إلى وقف عدوانه على الفلسطينيين.
ولعل الخبر السار هو تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية خلال الأيام الأخيرة على نحو لافت، بدءاً من قصف تل أبيب بالصواريخ بعد انقطاع لأشهر وصولاً الى تنفيذ عمليات نوعية في شمال القطاع وجنوبه أدت إلى قتل وجرح وأسر عدد من الجنود الاسرائيليين، الأمر الذي يزيد ورطة الاحتلال وانغماسه في وحل القطاع، وبالتالي يُضيّق عليه هامش خياراته في الأماكن الأخرى.
وبناء عليه، فإنّ أصحاب هذه المقاربة يلفتون إلى انّ مصلحة لبنان الاستراتيجية تكمن في أن تعزّز «حماس» صمودها وتكثّف ضرباتها العسكرية للعدو، كما تفعل لغاية الآن، حتى يظل غير قادر على التقاط أنفاسه والتفرّغ لجبهته الشمالية التي تحتاج منه حسابات معقدة.
ويؤكد المطلعون انّ الحيوية والنضارة اللتين اكتسبتهما المقاومة الفلسطينية داخل غزة خلال الآونة الأخيرة تعكسان انتقالها من مرحلة سلوك الدفاع البحت، كما كان الأمر في الأشهر السابقة، إلى مرحلة إنتاج دينامية جديدة تنطوي على طابع هجومي وفق ما يتبيّن من معاودة إطلاق الصواريخ على تل أبيب الكبرى وتنفيذ كمين جباليا المركّب، إلى غيرهما من العمليات التي تميّزت بزخمٍ لافت.
هذا التطور في تكتيكات «حماس» و»الجهاد» والآخرين يؤشر إلى أنّ المقاومة استطاعت احتواء المد أو الانفلاش العسكري لجيش الاحتلال ومن ثم نجحت في استدراجه إلى ملعبها وقواعد الاشتباك التي تناسبها، في دلالة على أنها تمكنت من امتلاك المبادرة مجدداً.
وضمن هذا السياق، تؤكد مصادر متقاطعة انّ «حماس» استطاعت التكيّف مع الواقع المستجد في غزة بعد مرور نحو 235 يوما على الحرب، وأعادت تفعيل كتائبها القتالية التي لم ينقطع عصبها الأساسي، فيما لا تزال الأنفاق الحيوية في الخدمة.
اكثر من ذلك، تبيّن انّ كثيرين من أبناء غزة تطوّعوا في صفوف «حماس» وفصائل أخرى عقب اندلاع الحرب، مع ما يحمله هذا الأمر من دلالات تفيد بأنّ المقاومة الفلسطينية جهّزت نفسها لحرب استنزاف طويلة، ستعرقل اكتمال عناصر أي مخطط محتمل لدى قيادة الاحتلال لخوض مغامرة متهورة على الجبهة اللبنانية، وسط سريان معادلة الإسناد المتبادل.