ليس أمراً عابراً ارتفاع منسوب اهتمام المؤسسة العسكرية والاستخبارية الاسرائيلية بالحرب على الوعي، التي أفردت لها حيِّزاً في الوثيقة المحدَّثة لاستراتيجية الجيش، بحسب ما نشرت صحيفة هآرتس قبل نحو شهر ونصف، ثم كشفت يوم الجمعة الماضي عن قرار نقل «قسم الوعي» من شعبة التخطيط الى شعبة العمليات في هيئة أركان الجيش. ولفتت الصحيفة الاسرائيلية ايضاً الى أن ذلك تم بناءً على توصية مسؤول رفيع في الاستخبارات العسكرية تم تعيينه لدراسة هذه القضية.
تستند خلفية قرار نقل هذا القسم الذي يلعب دور التخطيط لكل النشاطات (الحرب) الناعمة، في مقابل الجيوش الاجنبية والدبلوماسيين ووسائل الاعلام الاجنبية والرأي العام، الى ضرورة وضعه تحت سقف عسكري واحد، وبهدف تنسيق الجهود العسكرية للتأثير على العدو وعلى موقف الدول الغربية من عمليات الجيش على الجبهة الشمالية وفي مواجهة الفلسطينيين. وتتضح دلالة نقل مسؤولية الحرب على الوعي، التي هي من صلاحيات «قسم الوعي» الى جانب صلاحيات أخرى تتصل بالحلفاء، الى شعبة العمليات، بكونها المسؤولة عن هيئة تخطيط وتفعيل وتنسيق النشاطات العملانية للجيش، في البر والبحر والجو، واعداد الجيش للحرب، وبلورة المفهوم العملاني للجيش، المقتطع من نظرية الامن القومي بما يتلاءم مع النظرية القتالية التي يتبناها…
من هنا، يصبح واضحاً منشأ الاهتمام الحثيث لرئيس اركان جيش العدو، غادي ايزنكوت، بوضع «قسم الوعي» تحت مسؤولية شعبة العمليات، تحديداً، وهو ما يؤكد المكانة المتقدمة التي باتت توليها اسرائيل لهذا النوع من المعارك بعد فشل الكثير من الخيارات البديلة. ويتقاطع ايضاً مع مفهوم الانتصار، الذي سبق أن حدَّده في حينه رئيس الاركان السابق، موشيه يعلون، ولخّصه بأنه «كي الوعي»، كما نصّت على ذلك صحيفة هآرتس، التي عادت وذكَّرت بالمقاربة التي عرضها الصديق المقرب من ايزنكوت، العميد (احتياط) غابي سيبوني، حول جهود الحرب على الوعي (في دراسة نشرها معهد ابحاث بحوث الامن القومي ــ «الأخبار»، الإثنين ٥ آذار ٢٠١٨) وأشار فيها الى استغلال الفضاء التكنولوجي، وشبكات التواصل الاجتماعي، بهدف التأثير على متّخذي القرارات والقادة والمقاتلين، وكذلك الرأي العام المحلي والدولي.
صحيح أن الحرب الناعمة جزء من أدوات المعركة الى جانب الادوات العسكرية، لكن تقدّمها في الحالة الاسرائيلية الى الصفوف الاولى في أدوات المعركة، يأتي من ضمن خيارات بديلة، عمدت القيادة الاسرائيلية إلى بلورتها في أعقاب فشلها المتراكم طوال عقود في مواجهة حزب الله، (وايضاً في مواجهة المقاومة الفلسطينية). ويظهر ذلك جلياً في الادبيات التي يجاهر بها ويرددها رئيس أركان الجيش، منذ توليه قيادة المنطقة الشمالية ما بعد حرب عام 2006.
كيف تحوَّلت الحرب على وعي جمهور حزب الله الى مطلب مهم في الاستراتيجية الاسرائيلية؟
ينطوي العديد من تقارير الخبراء ومواقف القادة العسكريين الاسرائيليين على إقرار صريح بأن حزب الله استطاع أن يُحدث انقلاباً جذرياً في المفاهيم الاستراتيجية الاسرائيلية، من أبرزها، ما أوضحه وفسَّره رئيس أركان الجيش نفسه، ايزنكوت، خلال كلمة له مطلع عام 2016 أمام معهد ابحاث الامن القومي، بادر فيها الى شرح الاستراتيجية التي اتبعها حزب الله واستطاع من خلالها «تحدي التفوق الاستخباري والجوي والبري للجيش الإسرائيلي». وأدى ذلك، بحسب آيزنكوت، الى سلب جيش العدو القدرة على الحسم و«منَحَ مقاتلي الحزب القدرة على المناورة والبقاء» في أي حرب اسرائيلية. واستناداً الى هذا الأساس المتين، تم بناء وتطوير معادلات ردع وفّرت مظلة حماية وأمن للبنان وامتدت ظلالها الى المحيط الاقليمي.
في ضوء ذلك، وجدت اسرائيل نفسها أمام معضلة، فرضت عليها البحث عن خيارات بديلة اضافية، من ضمنها ما كشفه ايزنكوت، ايضاً، بالحديث عن مراكز ثقل بديلة من مركز الثقل العسكري. وتمثّل هذا الثقل، بنظر المؤسسة العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية، في احتضان الجمهور الشيعي لحزب الله. وورد ذلك حرفياً على لسان ايزنكوت منذ أن تولى قيادة المنطقة الشمالية بعد حرب عام 2006، ثم كرره بعد عقد، في أعقاب توليه رئاسة اركان الجيش، وأورده في محاضرته أمام معهد ابحاث الامن القومي، مطلع عام 2016، بالقول إن جمهور «القرى الشيعية يشكل مركز ثقل حزب الله»، مع تأكيد أن جمهور المقاومة يتجاوز الطائفة الشيعية، وإن كان الثقل المركزي لهذا الاحتضان في لبنان يتمثل بالطائفة الشيعية.
يُشار الى أن مفهوم «مركز الثقل» يُعبّر عن تشخيص دقيق لنقاط قوة المنظومة المعادية وضعفها، وبالتالي استهدافها عبر ضربات مباشرة. وفي النظرية الكلاسيكية، يتمثل مركز الثقل بكتلة جيش العدو أو نقاط ضعف مادية أو أدائية في منظومته العملانية…
وكما أنه في الحالات العسكرية يتم استهداف مراكز الثقل بالنيران لسلب المستهدف القدرة على مواصلة القتال، كذلك، في ضوء التعريف الجديد لمركز ثقل حزب الله، كما ورد على لسان ايزنكوت، (الشيعة مركز ثقل حزب الله) يصبح استهدافهم بما يتلاءم مع طبيعته الجديدة، أي بعبارة أدق عبر استهداف وعيهم وإرادتهم… بأدوات ثقافية وسياسية واعلامية يتم فيها استغلال تطور الاتصالات للترويج لمفاهيم ورؤى توهن من المقاومة، وتشوّه صورتها وتحمّلها مسؤولية العدوان والكثير من السياسات المحلية والاقليمية. وهو ما ورد مباشرة في المفردات التي يرددها كبار المسؤولين الرسميين الاسرائيليين، على المستويين العسكري والسياسي. وكل ذلك، يتم تنضيجه على مستوى المضمون والمفردات في «قسم الوعي» التابع لشعبة العمليات في هيئة أركان الجيش. ولا يخفى أن الهدف من هذه السياسة هو اختراق حصانة جمهور المقاومة التي شكلت ركيزة أساسية طوال المراحل السابقة، في مواجهة التهديد الاسرائيلي والجماعات الارهايبة والتكفيرية، على أمل التمكن من إيجاد شرخ بين حزب الله وجمهوره (الشيعي وغير الشيعي).
على خط مواز، لقسم الوعي دور أساسي ايضاً يتصل بأصدقاء اسرائيل، بهدف كسب تعاطفهم مع اعتداءاتها ومع المجازر التي ترتكبها وتلك التي تلوّح بها، وتقديمها على أنها دفاع عن النفس. وضمن هذا السياق، يندرج مخطط تشويه صورة المقاومة في لبنان وفلسطين، وإنتاج رأي عام عربي وعالمي معاد لهما.
وهكذا يتضح ايضاً أن كل عمليات استهداف المقاومة، في لبنان وفلسطين، التي تمت أو تلك التي يتم الاعداد لها، أو التلويح بها، تقترن دائماً بمخطط سياسي دعائي هائل يستهدف اختراق هذه الحصانة المشكلة من الوعي والارادة والتمسك بنهج المقاومة، وخياراتها الاستراتيجية المحلية والاقليمية، وباتت مقدمة لازمة لكافة أشكال الاعتداء على المقاومة، وأصبحت ايضاً جزءاً من البدائل التي اكتشف أعداء المقاومة اضطرارهم إلى شن حرب حقيقية على وعي جمهور المقاومة، بل شرطاً لازماً لنجاح كافة أشكال الحروب التي يتم التخطيط لها.