ستة أشهر مضت على حرب غزة وليس في الأفق ما يبشّر بحصول وقف لإطلاق النار في الأيام القليلة المقبلة. لم يكن أحد ليتصور يومها وفق أسوأ السيناريوهات، أن تخوض إسرائيل هذه الحرب الطويلة وبهذه الوتيرة العالية من المجازر اليومية ومن دون رادع دولي حقيقي وصارم.
كان التقييم الدائم للقوة العسكرية الإسرائيلية بأنّها متميزة من الناحية التكنولوجية المتطورة، ولكنها مشوبة بنقطتي ضعف أساسيتين. الأولى بأنّ تركيبتها الإجتماعية والإقتصادية تمنعها من خوض حروب طويلة تتجاوز الشهرين كحدّ أقصى، كون التعب سيحل سريعاً على مجتمعها، إضافة الى الضرر الكبير الذي سيصيب عجلتها الإقتصادية، والتي تُعتبر الركن الأساسي في بنيانها القومي.
والثانية، وتتعلق بالحساسية الكبرى حول العنصر البشري والخسائر في صفوف الجنود، وبطبيعة الحال مصير الأسرى.
لكن المفاجأة أنّ هذه الحرب شهدت تجاوزاً لهذين «العيبين». فالحرب التي تدخل شهرها السابع لا تزال تشكّل مطلباً شعبياً لاستمرارها ضدّ آخر معقل لـ»حماس» في غزة، وأيضاً ضدّ «حزب الله» في جنوب لبنان لإبعاده عن الحدود.
ذلك أنّ عملية «طوفان الأقصى» هزّت الكيان الإسرائيلي في العمق وأظهرت هشاشته، ما ولّد شعور الخوف على الوجود لدى الإسرائيليين، وهو ما سيبقى راسخاً لعقود طويلة، ودفعهم لتجاوز كل محرماتهم لصالح «الحرب الوجودية» التي يخوضونها كما يعتقدون.
والمقصود من هذه المقدّمة الإضاءة بشكل أفضل على التكهنات الدائرة حول مآل الحرب في رفح وأيضاً في لبنان. وبالتالي فإنّ الاعتقاد بأنّ الضغوط الأميركية الهائلة التي تقوم بها إدارة بايدن على الحكومة الإسرائيلية لوقف الحرب ستؤدي غايتها إنما هو اعتقاد خاطئ. جلّ ما قد يحصل هو تعديل في الأسلوب وليس أبداً في الأهداف. ما يعني أنّ معركة رفح قد تبدأ بعد عيد الفطر من دون القدرة على التكهن بمدتها. فعدا أنّ رفح تشكّل الملاذ الأخير لـ»القسّام»، فإنّ المشكلة الكبرى هي بالمصير الذي ينتظر حوالى مليون وأربعمئة ألف فلسطيني يكتظون في مساحة جغرافية ضيّقة. وهو ما سيفتح الباب أمام ترحيلهم باتجاه سيناء، وحيث تصبح المسألة عندها «مبادرة إنسانية» وليس تهجيراً خارج غزة.
وعلى الرغم من أنّ إسرائيل تعيش عزلة غير مسبوقة، إلّا أنّ الصورة الضعيفة التي يبدو عليها الرئيس الأميركي ودخوله في المعركة الإنتخابية القاسية سيدفعان واشنطن للعمل على تنظيف كل هذه «الأوساخ» التي ستحدثها إسرائيل. وأخطأ مستشار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما للأمن القومي بن رودس، حين اعتبر أنّ مقتل 7 من عمال الإغاثة في غزة يشكّل نقطة تحول في الحرب الدائرة. ستحصل بعض التعديلات في الأسلوب لكن الأهداف ستبقى كما هي، رغم أنّ بايدن خفّف من سياسة الدعم غير المشروط لإسرائيل، في وقت يعاني فيه من مشاكله الإنتخابية. وقد يكون لهذا السبب تعمّد الكشف عبر الإعلام عن مضمون مكالمته المتوترة مع نتنياهو، ما دفع الأخير للإعلان عن إجراءات فورية لزيادة المساعدات الغذائية الى غزة.
ففي واشنطن كلام عن انقسام حاد سيظهر داخل الحزب الديموقراطي في مؤتمره الذي سيُعقد في شيكاغو في شهر آب المقبل حول التعاطي الحاصل مع حرب غزة. وأهمية هذا المؤتمر أنّه يُعقد مرّة كل 4 سنوات وتحديداً قبل الإنتخابات الرئاسية لإقرار البرنامج الرسمي للحزب. ويبدو أنّ الجناح اليساري بزعامة بيرني ساندرز لن يكون سلوكه هادئاً، خصوصاً أنّه ممثل في لجنة صياغة البيان الرسمي. ويتردّد في الأوساط الديبلوماسية بأنّ مسؤولي حملة بايدن الإنتخابية نصحوه بممارسة سياسة «الحب القاسي» تجاه إسرائيل، وإظهارها الى العلن.
ووفق ما تقدّم يمكن توقّع السلوك الاسرائيلي تجاه لبنان في المرحلة المقبلة. الواضح أنّ مستوى العدائية سيرتفع سعياً للذهاب الى ترتيبات أمنية جديدة في المناطق الحدودية تكفل إنهاء الدور العسكري لـ»حزب الله».
وفي هذا الإتجاه ثابرت إسرائيل على توجيه رسائلها العسكرية في سوريا، والتي تشكّل ساحة التواصل بين «حزب الله» وإيران. وجاء الإعتداء الأخير على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق (والذي يحمل الكثير من الألغاز) واغتيال كبار المسؤولين الإيرانيين الذين يتولون الملفين اللبناني والسوري، ليحمل رسالة التحدّي الأبرز في هذا السياق.
وزير الدفاع الأميركي السابق مارك إسبر توقّع بأنّ إيران ستردّ ولكن على نطاق محدود، وقال: «يريدون الحفاظ على كرامتهم ومصداقيتهم مع وكلائهم في أنحاء المنطقة، وتلبية مطالب المتشددين في الداخل الذين يريدون رؤية إنجاز ما منذ بدء الحرب، وفي الوقت نفسه يريدون تجنّب الإنزلاق الى الحرب الواسعة».
وبعيداً من التقديرات الأميركية، فإنّ إيران التي تعرّضت لصفعة قوية في الوقت الحساس، تبدو ملزمة بالردّ بهدف استعادة هيبة «الردع» لديها. واستتباعاً فهي ملزمة بردّ يصاحبه ضجيج قوي بهدف إبراز عضلاتها، ولكن مع محاذرة الإنجرار الى فتح ابواب التصعيد على غاربه، كون هذا ما تريده اسرائيل. وفي الكلام الأخير لأمين عام «حزب الله» رسائل مشفّرة بالجملة طابع بعضها محلي وبعضها الآخر إقليمي. وهو عندما تحدث عن ردّ فعل إيران الحتمي حذّر من ردّ الفعل (الإسرائيلي) على ردّ الفعل (الإيراني). أغلب الظن أنّ إيران ستتولّى بنفسها الردّ على إسرائيل، مع احتمال أن يكون التوقيت خلال الأيام الأخيرة لشهر رمضان من أجل إعطائه بعداً دينياً.
وكان لافتاً قيام وزير خارجية إيران أمير عبد اللهيان بزيارة سلطنة عمان ومن ثم دمشق، قبل القيام بالردّ المتوقع. والواضح أنّ إيران التي تمتاز بالسلوك المتأني والمفعم بالارتياب، تقوم بحسابات معقّدة ومتشابكة ما بين مآل حرب غزة والنتائج المتأتية عنها وإعادة تشكيل خارطة المنطقة والمفاوضات الجارية في الكواليس حولها، وخصوصاً الصراعات التي بدأت تظهر حول حدودها، بدءاً من صراعها الحساس مع أذربيجان، حيث أنشأت اسرائيل محطات لها، وما استُجد مع البلوش عند حدودها جنوب شرق البلاد وتحركات «جيش العدل» المعارض والذي نفّذ اعتداءً دموياً خلال الأيام الماضية.
وفق هذه الحسابات لا يبدو المشهد بالبساطة التي يحسبها البعض. وهو ما يعني بأنّ القلق اللبناني من المرحلة المقبلة في محله. وبالتالي فإنّ الحركة السياسية تبدو مؤجّلة بانتظار انقشاع الرؤيا في الجنوب وفي سوريا خصوصاً.
وبالانتظار ستحصل تحركات داخلية بهدف ملء الوقت لا أكثر، كمثل تحرك اللجنة الخماسية، والتي ستغيب عن بعض اجتماعاتها السفيرة الأميركية التي استدعتها واشنطن للتشاور.
قد يكون مكتوب علينا الانتظار ولكن هذه المرّة على الحامي.