Site icon IMLebanon

الاحتقان الإسرائيلي – الإيراني وأبعاده الجيوستراتيجيَّة

 

 

 

منذ أن استفاقَ العالم على حدثِ طوفان الأقصى بدى جليًّا أن هذه العمليَّةِ النَّوعيَّة بطابعها وحجمها وأسلوبها ستُشكِّل نُقطةَ تحوُّلٍ جيوستراتيحيَّة في منطقة الشَّرق الأوسط؛ لقد أعادت هذه العمليَّة للقضيَّة الفلسطينيَّة وهجها، وأيقَظَت ضمير الشَّارع العربي الذي كاد أن يتناساها ويتعايشَ مع الحُلول التَّطبيعيَّة، وجاءت ردَّةُ الفعل الإسرائيليَّة الانتقاميَّة بأبشع الصُّور الإجراميَّةِ التي لم يسبق للمجتمعات البشريَّةِ أن شهدت بفظاعتها، حيث لم تدَع وسيلةً من وسائل القتل والفتك إلَّا واعتمدتها في عمليَّةِ إبادةٍ جماعيَّة على مرأى ومسمع من العالم أجمع، تخللها الكثيرُ من جرائم الحرب والتَّطهير العرقي، والعمليات الإرهابيَّة، والتَّدمير المُمنهج للأحياء السَّكنيَّة والبنى التَّحتيَّة، مع الحِرمان من أدنى مُقوِّماتِ الحياةِ باستهداف المؤسَّساتِ الإستشفائيَّة وأماكنِ إيواء النَّازحين والمَدارس والجامِعات والمخازن التَّموينيَّة ومصادر الطَّاقة والمياه، ولم تسلم منها حتى المقابر.

حَظِيَ الكيان الإسرائيلي بُعيدَ عملية طوفان الأقصى بتعاطُفٍ شعبي غربي، تلازمَ مع تأييد معظمِ السُّلطات الغربيَّة، تُرجِمَ بدعم غير محدود سياسيًّا وعسكريًّا ولوجستيًّا، ولكن سُرعان ما أخذ المزاج الشَّعبي يتبدَّلُ بعد أن تكشَّفت أمام الرأي العام العالمي حقيقةَ الكيانِ الإسرائيلي المُتغطرس، وممارساته الهَمجِيَّةِ التي لا تُعيرُ اهتماماً للمواثيق الدَّوليَّة ولا للجوانب الإنسانيَّة، وانطلقت احتجاجاتٌ عارِمةٌ في مُعظمِ دول العالم مناديةً بوقف أعمال الإبادة وجرائم الحرب التي تُمارسُ ضُدَّ المدنيين العُزَّل ومُعظمُهُم من الكهول والنِّساء والأطفال، ومُندِّدةً بالمواقف الرَّسمِيَّةِ الغربيَّةِ المُنحازةِ الى الكيانِ العُنصري الغاصب لأرضِ فلسطين وتغافلها عن حُقوق الشَّعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتوفير مُقتضياتِ العيش الكريم في ظل دولةٍ فلسطينيَّةٍ مُستقلَّة، وتدعو الحُكَّام العرب للتَّحرك الفاعلِ نُصرَةً للشَّعب الفلسطيني.

 

منذ ما يزيدُ عن ستة أشهر وحَربُ الإبادة التي تشنُّها إسرائيل ضدَّ أهالي غزَّة ساريةٌ دون هوادَةٍ وفقَ مُخطَّطاتٍ مُعدَّةٍ سلفاً، وبموافقة أميركيَّة ضُمنيَّة على خلاف ما يُبديه مسؤولوها من امتِعاضات، وما يؤكِّده هذا الاعتقاد، ذاك التَّعامي عن هول المَجازر المُرتكبَةِ وغضِّ النَّظرِ عن التَّدمير المُمنهجِ للأماكن المأهولة والبنى التَّحتيَّة، كما الدَّعمُ العسكريٍّ واللوجستي الغربي اللامحدود، والذي تمثَّلَ بإرسالِ عشرات حامِلاتِ الطَّائراتِ والغوَّاصات النَّوويَّةِ والبوارجِ البَحريَّةِ والقاذفات الإستراتيجيَّةِ وتسخير القواعِد العسكريَّة الغربيَّة في منطقة الشَّرق الأوسط لتوفيرِ الدَّعم، ولتَمرير رسالةٍ تَحذيريَّة لمن تُسوِّل له نفسه الإنخراطَ في المواجهةِ القائمةِ إلى جانب الشَّعب الفلسطيني أو مُساندتِه عَسكرِيًّا ولوجستيًّا. كل ذلك حصل بغياب أيِّ موقِفٍ فاعلٍ لمَجلسِ الأمن الدَّولي أو لأيٍّ من المُنظَّماتِ الدَّوليَّة التَّابعة لهيئة الأمم المُتحِدَة ووكالاتها، رغم إعراب الكثير من المسؤولين فيها عن رفضِهم للأعمالِ الوحشيَّةِ التي يتعرَّضُ لها الشَّعبُ الفلسطيني وتنديدِهم بها.

 

فعلت تلك الحُشود الدَّاعِمَةُ وما تنطوي عليه من تَهديدات مُبطَّنة فعلها، فامتنعت مكوناتُ مِحورِ المُمانعةِ عن الانخراط مُباشَرة بحرب واسعَةٍ مُتعدِّدةِ الجبَهات، مُتجاهلين بذلك الشِّعاراتِ التَّهويليَّةِ التي سبق وروَّجوا لها، واستُعاضوا عنها بمُشاغَلاتٍ جانبِيَّةٍ مَحدودَةٍ ومَضبوطَةٍ نِسبِيًّا، تم ربطُها باستمرارِ الصِّراع في غزَّة، سواء بإشغال العدو على الجَبهَةِ الشِّماليَّة (أي عبر الحُدودِ اللبنانيَّة – الفلسطينيَّة)، أو بالمُساندة عن بُعد، عبر إطلاقِ صواريخ بالستيَّة بعيدة المدى ومسيّرات انتحاريَّة من اليمن والعراق، كما استغلَّ الحوثيون موقِعَهم الجُغرافي المُشرف على أهم المضائق البحريَّة، معلنين حظر المِلاحة عبر الخليج العربي والبحر الأحمر، وبالتَّحديدِ تلك المتوجهة من وإلى الموانئ الإسرائيليَّة، وبادروا إلى اعتراضِ مسار العديد من بواخر الشَّحنِ وناقلات النَّفط المُرتبطَةِ بإسرائيل واحتجاز بعضها، الأمر الذي استدعى تدخُّلاً غربيًّا لاعتراض الصواريخ والمُسيَّرات المنطلقة من اليمن، وضَرب المواقع والمنصات المُعتمدَةِ في إطلاقها، كما استهداف البوارجِ الحَربيَّةِ التَّابعَةِ للتَّحالُفِ الغربي. ولكن بقيت تلك المحاولاتُ ضمن إطارِ مُحاولَةِ إشغالِ العدو وإرباكه لثنيه عن الاستِمرارِ في تنفيذ مُخطَّطهِ الإجرامي والحدِّ من اعتداءاته الهَمجيَّة، ولكنَّها تسبَّبت بشلِّ حركة الموانئ الإسرائيليَّة في خليج العقبة، وبدورها لم تنجَحَ التَّدخّلات الغربيَّة في لَجمِ وتيرَةِ استهدافِ الكيان بالصَّواريخ والمُسيَّرات أو في تأمين العُبور الآمن للسُّفن الإسرائيليَّة.

 

وإسرائيلُ، رغم انهماكها بحربها على غزَّةَ، إلَّا أنها لم تُغفل يوماً مسألة قَطعِ طُرقِ الإمداد على حزب الله، لذا دأبت على تعطيلِ مَطارَي دِمشق وحلب، ولم تتوقَّف عن تتبُّع شُّحناتِ الأسلحةِ برًّا وجوًّا وتحديدِ مخازن الأسلِحة ومُخيَّماتِ التَّدريبِ وقصفِها، كما تغفل عن تعقُّبِ كبارِ القادَةِ العسكريين التَّابعين للحرس الثوري أو لحزب الله أو للمُنظَّماتِ الفلسطينيَّةِ وتَصفيتِهِم حيث سنحت لها الفرص.

وكما استغلَّت إسرائيل عمليَّة طوفان الأقصى لتَنفيذ مُخطَّطِها التَّهجيري لسُكان قِطاع غزَّة، مُمهِّدةً له بإبادةِ جَماعِيَّةٍ وتقويض مُقوِّماتِ الحياة فيه، وحشرِ من تبقّى من قاطنيه على تخوم سيناء، من دون أيَّةِ مُقوِّمات للصُّمود، وها هي تسعى إلى استغلال المواقف الغربيَّةِ الرسميَّةِ الدَّاعمةِ لها، والتَّعزيزات العَسكريَّةِ التي أرسلت لنُصرَتها لتحقيقِ تطلُّعاتها الإستراتيجيَّة، والمُتمثِّلة في إحكام هيمنتها العَسكريَّة والاقتِصاديَّةِ على منطقةِ الشَّرق الأوسط، والتي ترى في تعاظُم نفوذِ النِّظام الإيراني وتمدُّدِ أذرُعِهِ حائلاً دونَ تحقيقِ حِلمِها، خاصَّة في ظِلِّ سعي إيران الدَّائمِ إلى تعزيز قُدراتها العَسكريَّة الإستراتيجيَّة، وبالتَّحديد في مَجالي صناعةِ الصَّواريخ والمُسيّرات الذَّكيَّة القادرة على ضرب أهداف بعيدة المدى، هذا بالإضافةِ إلى طموحها في دُخولِ النادي النَّووي؛ من هنا كان تَصدُّرُ هذا الأمر لقائمةِ الأولويات لدى القادة الإسرائيليين وفي طليعتهم نتنياهو، والذي لم يألُ جُهدًا إلَّا وبذله لإقناع الإدارة الأميركيَّة بضرورةِ القَضاءِ على هذا المَشروع قبل إنجازه باستهدافِ مُنشآته وتجهيزاته بضربةٍ استباقيَّة تقضي عليه قبل فوات الأوان، وهم يرون الآن أن الظروف الحاليَّة تُمثِّلُ فرصةً قد لا تتكرَّرُ لتَحقيقِ هذا المُبتغى، على الرغم من انشغالِ الحليفِ الأميركي بالانتخابات الرئاسِيَّة.

 

ما يُعيقُ القادةَ الإسرائيليين عن اتِّخاذ قرارٍ باستهداف المُنشآت النَّوويَّة ومراكز الصِّناعات العَسكريَّة الإيرانيَّة ومخازنها الاستراتيجيَّة اقتناعُهُم أن دولتهم غير قادِرَةٍ بمفردها على تدمير تلك المرافق وتعطيلها، كما عاجزة عن حماية نفسها في حال نُشوبِ حربٍ مَفتوحَةٍ طويلة الأمدِ وعالية التَّكلفة مع إيران وأذرُعِها، من هنا يرون ضرورةً في إقحامِ الولاياتِ المُتَّحدة الأميركيَّة في المَعركةِ المُفترضَة مع إيران، ولأنهم متيقنون من أن أميركا لن تترك إسرائيل وحدها تخوضُ غمار حرب مُكلفَة، وأنه بدخولها الحرب ستزجُ معها حلفاءَها الغربيين، ولكُلٍّ منهم تحفُّظاتُهُ على إيران بتوجهاتِها الثَّوريَّةِ التَّوسُّعيَّةِ وطموحاتِها العَسكريَّة.

وبعد أن أصبحت إسرائيل واثقةً من إنهاء خطَّتِها غير المعلنة في قطاع غزَّة، تتطلَّعُ لتَصفيةِ حِساباتها مع إيران التي تقف متفرِّجةً عليها وهي تخوض حروب استنزاف مُرهِقَة عَسكريًّا ولوجِستيًّا مع المُنظَّماتِ الراديكاليَّةِ المُسلَّحة التي أنشأتها إيران في كل من لبنان واليمن وسوريا والعراق، وتعمل على تسليحها ودعمها لوجستيًّا وماليًّا وتقنيًّا وتُشاغلُ إسرائيل بها منذ عقد من الزَّمن، لذا تراها متلهِّفةً لزجِّ العدو الأصيل «إيران» بحربٍ خاطفة مِفصليَّة تقضي على قدراتها العسكريَّة، وما عليها سوى إقناعُ الإدارة الأميركيَّة بجدوى هذه الحرب، أو إقحامها بها بأيَّةِ وسيلة.

صُنَّاعُ القرارِ في كل من الولايات المتحدة الأميركيَّة والدُّول الغربيَّة مقتنعون بوجهةِ نظر الإسرائيليين، القائلةِ بأن إيران تقفُ خَلفَ كل المُناوشاتِ والتَّحرُّشاتِ التي تقوم بها أزرُعُها، وهي من يُوفِّرُ لهم الرِّعايَةَ السِّياسِيَّة والتَّدريب والإمدادِ بالأسلِحَةِ ومختلفِ احتياجاتهم اللوجستيَّة والماليَّة والتِّقنيَّة. وتعتمِدُها كأدواتٍ طيِّعةِ لتنفيذِ مآربها وخِدمَةً لمَصالِحِها. وهذا ما يزعج أميركا والدُّول الغربيَّة ويَستفزُّ إسرائيل التي أرهقتها المناوشات التي تقوم بها الأذرع الإيرانيَّة بالنِّيابة عن العدو الأصيل، وهي مقتنعةٌ أن لا مناص من تلك المُضايقاتِ إلَّا بتقويضِ قُدُراتِ إيران العسكريَّة والقَضاءِ على طموحاتها في تصدير ثورتها.

وإسرائيل تخشى أن تُفوِّت عليها فُرصَةَ الإستِفادَةِ من الحُشود الغربيَّةِ الدَّاعمةِ لها لتغييرِ التَّوازُن في المنطقة، تمهيدًا لإرسائها على أسُسٍ جديدةٍ تتلاءمُ مع مصالِحِها، لذا لا تخفي حماسها لاستهداف إيران، حتى ولو اضطرَّت لفتح المَعركة مَعها قبل تقويضها لقدرات حزب الله على غرار ما حصل لحماس، من هنا تَعمدُ إلى رفعِ وتيرةِ تَحرُّشاتها العسكريَّةِ المُباشِرَةِ بها، سواء برفع وتيرةِ الاستهدافاتِ المُخابراتية داخلَ أراضيها، أم بقصفِها لمواقِعِ الحرس الثوري في سوريا، واستهدافِ قادتِه الميدانيين، وبدا ذلك جليًّا بتَعَمُّدُها اغتيالِ سَبعَةٍ من قادتِهِ داخل مبنى القُنصُلِيَّةِ الإيرانيَّةِ في دِمشق مع علمها الكامل بمحاذير العمليَّة وتبعاتِها، كل ذلك بغرَضِ حشر إيران ودفعها إلى الردِّ مُباشرة عليها، كي تتِّخذ من ذلك ذريعةً لشنِّ الهجماتِ عليها، وهذا ما حصلت عليه إسرائيل ليلة الثالث عشر من نيسان.

إيران أُحرجَت بضرب قُنصُليَّتِها، فأُخرِجَت عن طَورِها ووقعَت في المكيدةِ الإسرائيليَّة بمُجرَّدِ ردِّها على الاعتداء من داخلِ أراضيها مُستهدفةً الدَّاخلَ الإسرائيلي بغضِّ النَّظر عن كون الأهداف عسكريَّة أم مرافق حيويَّة، وبعيداً عما إذا كانت الصَّواريخ والمُسيَّراتُ التي أطلقتها قد أصابت أهدافها أم أخفقتها، أثبتت أنها قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي في أي وقت. هذا الرَّد النوعي، كما يطيب للقيادة الإيرانية توصيفه حفظ لها ماء الوجه، ولكنه سيشكّل أحجيةً لإسرائيل لتوجيه ضَرباتٍ موضعيَّةٍ قاسيةٍ تستهدف تدميرَ المُنشآت العسكريَّةِ الإستراتيجيَّةِ والمرافق الحيويَّة في إيران، والتي ستضطر مُجدَّداً للرد بوتيرة أعلى من السَّابقة حفاظاً على مِصداقيَّتها، وهذا ما سيفتحُ المَعركةَ على مِصراعيها، وتتحوَّلُ من ثنائيَّة إلى إقليميَّةـ دوليَّة، وسيَصُبُّ الغربُ جامَ غضبِهِ على إيران، التي ستَجِدُ ذاتها في خِضمِّ حربٍ غير مُتكافئة، وسيكون نِظامُها المِلالي أمام تحدٍ وجودي للمرَّةِ الأولى، وخاصَّة فيما لو اقترنت الحربُ مع احتِجاجاتٍ شَعبِيَّةٍ موجَّهة وممولة غربيًّا.

كُثُر هم المُتشوقون إلى هذه الحرب، منهم بقصد تجريب فعاليَةِ أسلحةٍ جديدة وبيع المزيدِ منها، ومنهم المُتعاطفون مع إيران، وآخرون متعطشون للتَّخلُّصِ من دورها المُشاكسِ على السَّاحتين الدَّوليَّة والإقليميَّة، ومنهم رغبة في الانعتاقِ من تَدخُّلاتِها في شؤونِهِم الدَّاخلِيَّة؛ وقد ينخرطُ فيها بعضٌ من الدُّولِ العَربيَّة طَوعاً سِرَّاً أو علانيَة، وقد يُدفَعُ بالبعضِ الآخرِ للإنخراطِ والمُشاركَةِ ولو بصورةٍ رَمزيَّةٍ أو بالسَّماحِ باستعمالِ مَجالِها الجَوي والقواعِدِ العسكريَّةِ الغربيَّة القائمةِ على أراضيها. وبعيداً عن الاعتبارات الشَّخصيَّةِ نرى أن ما ستؤول إليه الأوضاع بعد هذه الحرب ليس بالتَّأكيدِ كما قبلها، وستتغيَّرُ حتماً مُرتكزاتِ وقواعدُ التَّوازُن القائمة لتحلَّ مكانها مرتكزاتٌ وقواعِدُ أُخرى.

* عميد متقاعد