Site icon IMLebanon

إستدامة السلاح والعداء وتماسك إسرائيل

 

“أُعيذُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقَةً

أَن تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ

وَما اِنتِفاعُ أَخي الدُنيا بِناظِرِهِ

إِذا اِستَوَت عِندَهُ الأَنوارُ وَالظُلَمُ

إِذا رأيتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً

فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ”            (أبو الطيب المتنبي)

من ضمن الأوهام التي آمنا بها في شبابنا، هي أنّ إسرائيل تسعى إلى السلام والتسويات مع العرب، بينما العرب الصناديد هم الصامدون في وجه التطبيع، بالطبع من خلال حال العداء الرسمي المستدام. كان هذا قبل أن نفهم متأخّرين أنّ القادة الصناديد، الذين احتلوا صدارة المنابر وأفئدة الملايين، كانوا فقط يستمدون استدامتهم على ناصية البلاد والعباد من ممانعتهم وحركاتهم المسرحية، ملوّحين بالعداء لدولة العدو. كان هذا، وإن صدقوا بعدائهم، على الرغم من اقتناعهم بتهافت مساعيهم للمواجهة لأسباب موضوعية، تتعلق بموازين القوى مع إسرائيل، وهي التي تسبقهم بسنوات ضوئية على مختلف المستويات، بداية بتحالفاتها ومرورًا بالاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة والاجتماع…

 

من هنا، فقد بقيت شعارات الإعداد للمعركة مجرد خدعة للناس المنتظرين ليوم النصر، وذلك لدفعهم إلى تحمّل شظف العيش وضمور القدرة على التعبير. لكن، في المقابل، فقد استدام القادة الميامين حكمهم، في وقت بقيت إسرائيل تستخدم حال العداء اللفظي والمعنوي من محيطها لبناء مزيد من التماسك الداخلي والتعاون الخارجي، وتسويغ عدم الالتزام بالقرارات الدولية أو التملّص من التزاماتها التعاقدية، بحجة استمرار حال العداء المسرحي.

 

عندما أدرك العالم أنّ المسرح مجرد مسرح، أصبحت العمليات العنيفة والظواهر المتطرفة لمنظومات غير رسمية، البديل الناجع لإسرائيل لحال العداء الرسمي من جانب دول الجوار. أعني بذلك العمليات الانتحارية والصواريخ العمياء منها والموجّهة، ويمكن أن نزيد عليها على المستوى الاستراتيجي الملف النووي! قد يظن البعض أنّ كلامي مجرد هذيان، لأنّ البديهي هو أنّ ما ذكرته هو خطر على إسرائيل، فكيف يصبح سببًا لتماسكها إذًا؟

 

منذ سنوات، وعندما كانت “تسيبي ليفني” تقود المعارضة في الكنيست الإسرائيلي ضدّ نتنياهو، قالت في إحدى الجلسات متوجّهة لرئيس الوزراء: “إلى متى يمكن الحفاظ على إسرائيل كإسبارطة؟”. وهنا تعني بها مجتمعًا عسكريًا على عداء دائم مع المحيط، ومستعد أبدًا للمواجهة والقتال. هنا بيت القصيد، فتماسك إسرائيل المجتمعي والديني والسياسي مرتبط بنحو حميم بالتهديد الدائم، أما السلام والأمان فسيعنيان الذهاب إلى التفكّك والتحلّل من الضوابط والانفتاح على المحيط القريب قبل البعيد. أهمية الاستقرار على إسرائيل لها وجوه عدة، بعضها سلبي عليها. فعندما انطلقت الدعوة الصهيونية الرسمية إلى وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، كان لهذه الدعوة وجهان: الأول ديني موروث من الكتب المقدسة ومن التقليد الشفوي. والثاني سياسي كان يبحث عن النجاة من الاضطهاد السياسي والاجتماعي الذي مارسته أوروبا على اليهود عبر التاريخ، حتى بعد مرحلة التنوير التي بقيت محصورة في بعض المتنورين ليس إلّا، ولم تتعمّم لا على العامة ولا على المؤثرين في المجتمع.

 

عند بداية الاستيطان، برزت ثلاثة توجّهات للصهيونية: الأولى دينية صوفية، تدعو إلى تحويل فلسطين أرضًا إيمانية غير سياسية للتحضير للزمن المسيائي، أو المعروف بمجيء المسيح. الثانية، قومية تجاوزت البُعد الديني لتعتبر اليهودية قومية إتنية، بغض النظر عن الإيمان بتعاليمها وشعائرها المعقّدة. الثالثة، كانت يسارية الطابع، فيها بعض الحنين إلى “زمان الوصل في الأندلس”، دعت إلى مجتمع تعاوني في فلسطين مفتوح للجميع، حتى من غير اليهود، لبناء مجتمع العدالة والمساواة، أي زمن مسيائي مدني غير ديني!

 

فشل التوجّه اليساري، في ما عدا بعض الاستثناءات، في توحيد العرب واليهود في حراك سياسي موحّد. تعاون في إفشال هذا التوجّه خشية العرب من كون هذا التوجّه إلحادي الطابع، أو أن يكون مجرد خدعة جديدة لسلبهم حقوقهم التاريخية. أما من ناحية اليهود، فقد تمكّن التطرّف القومي العنصري العنيف من قمع هذا التوجّه منذ عشرينيات القرن الماضي. المثل الذي بقي عالقًا في عقول اليسار الصهيوني كان تظاهرة يافا في عيد العمال عام 1921، التي دعا اليها الحزب الشيوعي الفلسطيني بأعضائه اليهود والفلسطينيين، الذين كانوا يطالبون بإنهاء الاحتلال البريطاني وإنشاء مجتمع سوفياتي في فلسطين. تعرّض هؤلاء لهجوم عنيف ودموي من جهتين، الأولى من اليهود المعادين لهذا التوجّه، والثاني من سكان يافا الفلسطينيين الذين اعتبروا التظاهرة وجهًا من وجوه الاعتداء عليهم!

 

لست هنا في موقع المراجعة الرومنسية لما هو بائد، فالماضي لا يعبأ بالمراجعات ولا بالندم، فما يهمّ هو الحاضر والدروس التي نتعلّمها لإدارة المستقبل. هذه الدروس فهمتها بعض القيادات الفلسطينية التاريخية، بعد سنوات طويلة من النزاع والنضال، فبنت رؤيا جديدة على نتائج النزاع، على الرغم من أنّها بقيت أسيرة للشعبية الشعبوية. كان اتفاق أوسلو نتيجة لهذه الرؤيا، الواقعية من جهة، والعالية المخاطر من جهة أخرى. فعندما تدخل الأمور في عملية التوازن، تبقى الكفة راجحة للتطرّف العنيف، حتى وإن كان من جانب أقلية، لكن ترددات الفعل على الفعل، تُدخل الأمر في حلقة مفرغة تصاعدية نحو مزيد من العنف. وهذا ما حصل عندما اغتال التطرّف اليهودي اسحق رابين، ومن ثم اغتال التطرّف الإسلامي اتفاق أوسلو بكامله من خلال العمليات التي طاولت إسرائيليين.

 

ما زاد في حدّة الإشكال، كان أسر القيادة الفلسطينية في حمأة المزايدات الفلسطينية والعربية، فلم تتمكن من القيام بما هو مفيد لشل حلقات الفعل وتردداته. ومن ثم الانفصال الغزاوي وتداخله مع النزاع الإقليمي القائم اليوم. من هنا، نرى أنّ اليسار الصهيوني وغير الصهيوني اندثر عمليًا في إسرائيل وحلّ محله اليمين القومي والديني المتطرّف. وحلّت إيران ولاية الفقيه وأتباعها مكان العرب الذين خرجوا أو أُخرجوا من حلقة المواجهة.

 

ad

لا أريد أن يفترض البعض أنني أحاول امتداح اليسار الصهيوني، ولا أدعو بالتأكيد إلى الانفتاح على العدو، لكنني أحكم على الأمور من خلال تحليل المسارات والنتائج. ولا أريد بطبيعة الأمر أن أسرح في افتراض مؤامرة ما بين اليهود والشيعة، كما يحب بعض أهل السنّة أن يفترضوا، ولا بين الفرس والعبرانيين كما يحلو لبعض العرب أن يجتهدوا، مستندين إلى وقائع تاريخية في أيام “قورش الأخميني” (539 ق.م.) الذي حرّر اليهود من السبي البابلي القسري الذي فرضه الأشوريون (721 ق.م. و597 ق.م.). فاقتناعي هو أنّ العداء بين إسرائيل وإيران حقيقي، لكنه مرتبط بالتنافس على الهيمنة على المنطقة وليس بأسباب عقائدية. ولكن، ومن ضمن النزاع، تحققت للطرفين فوائد جانبية. لإسرائيل استمرار التهديد الوجودي وتسويغ العدائية والتماسك الداخلي والدعم الخارجي وتجاهل التسويات بحجة استمرار النزاع، كما هو تدمير لبنان وسوريا والعراق، ودفع بعض العرب نحو الحياد أو حتى التعاون. من جهة إيران ولاية الفقيه، يأتي الانفلاش العسكري في المحيط والسيطرة العقائدية والأمنية على مساحات واسعة من الأراضي العربية، ولأتباعها الاستمرار في حمل السلاح بحجة المقاومة وتوازن الرعب مع إسرائيل.

 

ملحوظة، في العام 1937 زار فلسطين “أدلف إيخمن”، وهو من أصبح لاحقًا أحد أهم مهندسي إبادة اليهود في المحرقة. إلتقى هناك أحد قادة منظمة “الهاغانا” اليهودية المتطرفة. قال الأخير “إنّ سياسة ألمانيا النازية لتهجير اليهود مفيدة لنا لنتحول إلى أكثرية في فلسطين”، فقال إيخمن “هكذا تصبح المصالح مشتركة”! وقع إيخمن عام 1961 في مصيدة للنازيين نشرها الموساد، وأُعدم في الأرض المحتلة شنقًا بتهمة جرائم حرب، بعد أن استُعرض في قفص في الشارع أمام الناجين من المحرقة وأمام أهل ضحاياها.