تفيض الأوساط السياسية والشعبية بتساؤلات حول مستقبل المواجهة بين «حزب الله» والعدو الاسرائيلي، وعمّا اذا كانت قد اقتربت من لحظة التدحرج نحو حرب واسعة، فما هو المسار الأكثر ترجيحاً في ظل «الجرعات الزائدة» من التصعيد الميداني عقب العدوان الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية؟
قبل الغارة الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية، كانت التقديرات السائدة لدى أغلب الجهات المعنية في الداخل والخارج لا تزال تستبعد فرضية الحرب الشاملة، على الرغم من كل المظاهر التي قد توحي بالعكس.
صحيح انّ احتمال الحرب الواسعة يملك حيثياته التي تبقيه وارداً في ظل بيئة متفجّرة يصعب التحكّم بها كما ثبت من خلال حادثة مجدل شمس، لكن العوامل الكابحة لهذا الاحتمال لم تفقد فعاليتها وزخمها بعد، وإن تكن المواجهة باتت تدور حالياً فوق السنتيمتر الاخير من حافة الهاوية، وفق ما دلّ عليه الاستهداف الاسرائيلي لقلب الضاحية الجنوبية.
وغالب الظن، انّ احداً من اللاعبين الأساسيين لا يريد أن يقطع الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحافة الرفيعة وقعر الهاوية، كلْ لأسبابه واعتباراته التي تختلف طبيعتها ومنطلقاتها، الّا انّها تصبّ جميعها في خانة السعي الى تفادي المواجهة الواسعة.
لا يعني ذلك أنّه يمكن ضمان استبعاد السيناريو الأخطر بالكامل، حتى لو كانت الحسابات المنطقية لا تعطيه الأرجحية، إذ يجب الأخذ في الحسبان انّ مفاعيل الردود المتبادلة التي قد تتجاوز قواعد الاشتباك، ربما تؤدي تلقائياً إلى تدحرج نحو حرب كبرى، من دون أن يكون هناك بالضرورة قرار مسبق بالذهاب اليها.
وضمن هذا الإطار، سيكون على الجميع، وفي الطليعة العدو، بدءاً من الآن، انتظار ردّ «حزب الله» على الاعتداء الاسرائيلي الذي تجاوز الخط الأحمر وقواعد الاشتباك، وتبيان الحدود التي يمكن أن يصل اليها جواب الحزب تبعاً لقاعدة التماثلية التي يتمسّك بها، ومن ثم سيتمّ ترقّب الردّ الاسرائيلي المحتمل، ليُبنى على الشيء مقتضاه وتحديد المسار الذي ستتخذه المواجهة في المرحلة المقبلة.
وحتى ذلك الحين، يمكن تعداد الأسباب الآتية لاستبعاد ان تلجأ قيادة الاحتلال الى خيار الهجوم الكبير على لبنان و»حزب الله»:
– انّ نتنياهو العالق في نفق غزة والعاجز حتى الآن عن حسم المعركة هناك بعد عشرة اشهر من القتال، لن يغامر بشن حرب شاملة غير مضمونة النتائج والعواقب، على الجبهة اللبنانية الأصعب والأقسى، وهو يعلم انّه اذا فعل، يكون قد دخل في مأزق آخر قبل أن يخرج من مأزقه في القطاع، الأمر الذي سيُفاقم مشكلته بدل ان يحلّها.
– انّ الاولوية بالنسبة إلى نتنياهو تبقى غزة لأنّها تنطوي على تهديد استراتيجي للكيان من داخله، وفق ما أكّدته عملية «طوفان الأقصى» في 7 اكتوبر، وبالتالي فإنّ رئيس حكومة الاحتلال يفترض انّ عليه الانتهاء من هذا التحدّي، ثم التفرّغ لمعالجة التحدّي الآخر الذي يواجهه على الحدود الشمالية مع لبنان.
– انّ الولايات المتحدة لم تعط نتنياهو بعد «فيزا» سياسية لمهاجمة لبنان على نطاق واسع. وحتى لو كانت الإدارة الأميركية تمرّ في مرحلة من الضعف بفعل تنحّي الرئيس جو بايدن عن السباق الرئاسي وتقلّص تأثيره في الفترة الفاصلة عن موعد الانتخابات، الّا انّ اي قرار إسرائيلي بحجم شن عدوان شامل على لبنان يمكن أن يسبّب تداعيات اقليمية ويورط واشنطن، انما يحتاج إلى غطاء ودعم أميركيين ليسا متوافرين حالياً.
– انّ التشظي في الجبهة الداخلية للكيان يشكّل عبئاً إضافياً على قيادته، من شأنه ان يساهم في زيادة ضعفها واضطرابها، وليس ادلّ على ذلك من المواجهة العنيفة التي حصلت بين متظاهرين وجنود في معسكر بيت ليد العائد الى الاحتلال وما أفرزته من تصدّعات داخلية وتعليق لإجتماع كان مخصصاً للمناقشات العملياتية على الساحة الشمالية، وإذا كان الكيان قد اعتاد على تصدير ازماته للخارج عندما تستعصي عليه، فإنّ هذه «الوصفة» لم تعد تصح مع التطور النوعي في قدرات المقاومة ومعادلاتها.
– انّ نتنياهو يعرف في قرارة نفسه، وبمعزل عن المكابرة العلنية، ماذا ينتظره لو قرّر خوض مغامرة غبر محسوبة ضدّ لبنان، خصوصاً انّ جيشه منهك ومستنزف ويواجه نقصاً في الدبابات والعديد جراء مجريات معركة غزة، وفق ما أقرّ به كبار ضباطه، الامر الذي يعني انّه غير جاهز لتحمّل أعباء ورطة جديدة من الوزن الثقيل على الجبهة اللبنانية، فيما هناك جهوزية كاملة لدى «حزب الله» للتعامل مع أي عدوان شامل سيحرّره من الضوابط التي تقيّد بها حتى الآن، واستطراداً فإنّ نتنياهو يعلم انّه قد يتحكّم بزر بدء الحرب الكبرى ولكن الأكيد انّه لن يستطيع رسم نهايتها.