IMLebanon

سقوط الاستراتيجية الإسرائيلية وتفكك عقيدتها الأمنية

 

 

 

بعد انقضاء سنة كاملة على عملية طوفان الاقصى وقرار اسرائيل باجتياح قطاع غزة بهدف تدمير حماس وإنهاء حكمها للقطاع، فقد قرر مجلس الوزراء المصغَّر في جلسته الاخيرة بنقل الحرب من غزة الى الجبهة الشمالية مع لبنان. وهكذا باتت اسرائيل على بُعد خطوات معدودة من الانتقال من حرب محدودة في اخطارها وابعادها الى حرب واسعة مع حزب الله، وذلك بالرغم من ادراكها بامكانية الانزلاق الى حرب اقليمية، ستجر فيها اسرائيل على القتال على ست جبهات مختلفة، مع مخاطر الدخول في حرب مباشرة مع ايران.

تؤكد القيادات اليمينية في اسرائيل منذ شهر حزيران الماضي بأن الخطط العامة لشن هجوم واسع على الجبهة اللبنانية قد وضعت وجرى عليها موافقة السلطات السياسية. وفي المقابل فقد اعلن السيد حسن نصر الله الامين العام لحزب الله في شهر تموز الماضي بأنه على استعداد لتوسيع الحرب، بحيث تطال صواريخه العمق الاسرائيلي وبالتالي تهديد امن واستقرار المدن الاسرائيلية.

 

لم تتعامل وسائل الاعلام الاقليمية والدولية بجدية مع احتمالات توسيع الحرب بين اسرائيل ولبنان، بالرغم من المخاطر الكبرى المترتبة على توسيعها على الامن الاقليمي، وعلى امن اسرائيل نفسها بالرغم من ادراك الجميع من عدم قدرة اسرائيل منفردة، على خوض غمار هذه الحرب الواسعة، وذلك على ضوء تعثر عملياتها البرية ضد حماس وضد بعض خلاياها في الضفة الغربية، وتتحدث آخر الاخبار من اسرائيل عن اتخاذ القرار السياسي بتوسيع الحرب على الجبهة الشمالية، واحتمال ان تأخذ طابع الهجوم البري الواسع من اجل إبعاد قوات حزب الله الى ما وراء خط الليطاني، وفق ما صرح به قائد المنطقة الشمالية في الجيش الاسرائيلي.

يأتي هذا التهديد الاسرائيلي بتوسيع الحرب بعد فشل اسرائيل في اعتراض صاروخ اطلقته جماعة أنصار الله، وتأكيد سقوطه في منطقة تل ابيب، بعد اعتراضه المتكرر من نظام صواريخ «أرو» والفشل في تدميره.

 

بالرغم من حجم الدمار الكبير نتيجة الحرب على غزة، والمجازر التي قتلت وجرحت ما يقارب 115 الف مدني من سكان القطاع، فإن اسرائيل تتجاهل حجم الخسائر التي تكبدتها سواءٌ في جيشها او في مجتمعها وفي اقتصادها، بالاضافة الي الخسائر المعنوية والدبلوماسية التي ستتحملها حاضراً وفي المستقبل.

تحاول الحكومة الاسرائيلية تغطية فشلها في حل ازمة الرهائن بالطرق العسكرية، او عبر المفاوضات الدبلوماسية وذلك بهدف التغطية على فشلها بتحقيق الاهداف التي حددتها منذ بداية الحرب، وهي تستبدل تخليص الرهائن بعملية عسكرية في الشمال بهدف اعادة ما يقارب مئة الف مواطن اسرائيلي الى قراهم ومنازلهم في شمال اسرائيل، وبالتالي تغطية فشلها العسكري في المواجهة التي تخوضها ضد حزب الله منذ الثامن من تشرين اول عام 2023، باعلان الحكومة بتوسيع الحرب الى داخل لبنان، فهذا يعني حتماً انها قد قررت توسيع واطالة امد الحرب، وفتح الجبهة امام المزيد من التصعيد، بالاضافة تهديد الداخل الاسرائيلي امام احتمال حصول مواجهات مدمرة وبمستويات اعلى من كافة ما شهدته اسرائيل في حروبها السابقة، مع توقع زيادة عدد الصواريخ التي اطلقت باتجاه اسرائيل (والتي زاد عددها على 7600 صاروخ) اضعاف هذا العدد، مع تحسن كبير في المدى والدقة وحجم الرأس المتفجر.

 

لا بد ان تدرك القيادة الاسرائيلية بأن تصعيدها للحرب على الجبهة الشمالية سيجذب حلفاء جدد للمشاركة في العمليات الجارية من العراق وسوريا، وأن ذلك سيتسبب بمخاطر وتعقيدات امنية وعسكرية، وسيكون من الصعب على اسرائيل استعمال استراتيجية جديدة في مواجهة هذه الاخطار وخصوصاً لجهة احتواء كثافة النيران الموجهة الى الداخل الاسرائيلي.

والسؤال الذي يفترض ان تطرحه القيادات الاسرائيلية في حال توسع العمليات، على ماهية وضيعة الاستراتيجية الجديدة القادرة على احتواء توسع المواجهة، وبالتالي المساعدة على خفض مستوى الخسائر وخصوصاً لحماية المدنيين، والبنى الاساسية الهامة داخل اسرائيل وابرزها المنشآت الكهربائية وأمكنة تخزينة الطاقة، ولا بد للقيادة الاسرائيلية ان تدرك المصاعب التي ستواجهها في نهاية الامر لايجاد المخارج للازمة لانهاء الحرب.

ستجد اسرائيل نفسها في حال توسع الحرب امام معضلة حماية السكان والبنى والموارد الهامة لا يمكن حلها بواسطة التفوق النار والتكنولوجيا الذي تمتلكه.

والسؤال الاهم يتلخص بمدى قدرة الاقتصاد الاسرائيلي على تحمل زيادة الانفاق سواءٌ لزيادة عديد القوات المسلحة والتسليح وتطور الاسلحة. لقد سبق لاسرائيل ان واجهت في السابق تراجعاً في حجم الانفاق العسكري. وقد ادى ذلك الى الغاء عدد من الالوية المدرعة، وتوقيف بعض اسراب الطائرات عن العمل، والغاء وحدات عسكرية بالكامل، وسيؤدي هذا التراجع في قدرات الجيش القتالية الى اضعاف العمليات العسكرية وارهاق جميع الوحدات العاملة في الميدان، والتسبب بالتالي في خفض قدراتها وفعاليتها الميدانية، خصوصاً اذا طالت الحرب الامر الذي سيؤدي حتماً الى ارهاق القوى في ظل التراجع الذي سيحصل في مجال تعويض الخسائر البشرية في صفوف القوى المقاتلة.

وستواجه اسرائيل مصاعب عسكرية جمّة، بحيث لا تقتصر عى نقص الموارد البشرية بل تتعداها لتشمل قضايا لوجستية كبرى، واهمها المخزون الكبير اللازم من الاسلحة والذخائر وقطع البدل للاليات والطائرات. ولندرك مدى الحاجة لمثل هذا المخزون اللوجستي لا بد من اجراء مراجعة عامة لحرب غزة، ورغم صغرها ومحدودية قدرات حماس العسكرية فقد تطلبت العمليات دعماً عسكرياً أميركياً متزايداً. ويبادر هنا الى الذهن السؤال حول مدى قدرة اسرائيل على زيادة الانفاق العسكري لزيادة انتاج صناعاتها العسكرية وتوسيعها من اجل اعادة بناء مخزونها الاستراتيجي لمواجهة متطلبات توسيع الحرب وتحويلها الى حرب اقليمية؟

تدرك القيادات الاسرائيلية دون شك المصاعب الاقتصادية التي تواجهها بسبب الحرب في غزة، وقد ظهر ذلك جلياً من خلال اهتزاز وضعف شبكات التموين وتراجع مستوى الاعمال وانتاجية الشركات الصغيرة وشركات التكنولوجيا والخسائر التي ترتبت عليها جراء دعوة الاحتياط وخسارتها لآلاف المهندسين والكادرات التقنية.

سبق لاسرائيل ان اعتمدت في حروبها السابقة استراتيجية عسكرية تأخذ بعين الاعتبار محدودية مساحتها وعدد سكانها بالمقارنة مع اعدائها. والتي ترجمت بشن حروب سريعة وقصيرة وحاسمة، وداخل اراضي العدو في اغلب الاحيان، واظهرت هذه الاستراتيجية فعاليتها وخفض المخاطر داخل اسرائيل نفسها.

جرى بناء تلك الاستراتيجية على ثلاثة اعمدة: الردع والانذار المبكر وحسم المعركة بعملية قصيرة وخاطفة، وبالفعل فقد اظهرت هذه الاستراتيجية نجاحها في حرب 1948، كما نجحت في حرب 1967، حيث شنت اسرائيل حرباً ضد ثلاثة جيوش عربية وحققت نصراً كاسحاً خلال ستة ايام. ونجحت اسرائيل عام 1973 في صد الهجومين المصري والسوري بسرعة فائقة.

لكن بدأت مصاعب الجيش الاسرائيلي في مواجهة الاعداء بعد التبدّل الذي حصل في طبيعة الحرب واختلاف اساليبها مع ميليشيات فلسطينية ومع حزب الله وانصار الله وغيرهم، وصولاً الى داعش ومنظمات ارهابية اخرى. واللافت الآن ان اسرائيل بدأت تدرك مدى صعوبة الانتصار على هذه الاذرعة المسلحة في ظل دعم ايران غير المحدود لها بالمال والسلاح. وكان على اسرائيل ان تدرك المصاعب المترتبة على امتلاك هذه القوى الجديدة لقوى صاروخية كبيرة ومتطورة، الامر الذي فرض عليها تطور شبكة صاروخية للدفاع ضد الصواريخ من ثلاثة انظمة: القبة الحديدية ومشلح داوود ونظام «أرو».

في الوقت الحاضر تقوم الاستراتيجية الاسرائيلية على ركيزتين: الاولى الدفاع عن اسرائيل، والثانية التحضير لعمليات هجومية جوية برية داخل اراضي العدو.

اظهرت الحرب في غزة بأن الاستراتيجية القديمة قد فشلت في حماية اسرائيل، حيث سقط عامل الردع، كما فشل نظام الانذار المبكر كما فشلت في حماية السكان داخل اسرائيل من هجمات حماس وحزب الله وانصار الله، كما ودّعت الى غير رجعة الحلم بشن حروب قصيرة. وعلى اسرائيل ان تدرك ان جميع فرضياتها السابقة قد سقطت بعد ان بدأت الحرب الراهنة من داخل اراضي اسرائيل نفسها، الامر الذي يعني ايضاً تفكك عقيدتها الامنية للدفاع وحماية الداخل الاسرائيلي.

من هنا يمكن النظر الى القرار الاسرائيلي الاخير بتوسيع الحرب الى الجبهة اللبنانية ضد حزب الله بأنه يعني فعلياً الدفع نحو حرب اقليمية، وبالتالي ركوب مغامرة خطيرة وغير محسوبة النتائج.