من المؤكد أنّ مسألة التكفير والتي تؤدي الى حكم شرعي قضية خطرة لا يجوز الخوض فيها بغير علم. وقد أكدت الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة بيان الضوابط الشرعية في هذه المسألة المهمّة.
والحقيقة أنّ البحث في التكفير موجود في كل كتب العقيدة والفقه قديماً وحديثاً، ولدى جميع المذاهب الإسلامية، سواءٌ كانت هذه المذاهب في العقيدة أو في المدارس الفقهية المتعددة لدى المسلمين، وليس البحث في التكفير خاصّاً بالإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة وعلماء المملكة العربية السعودية كما يدّعي بعض أصحاب النيات السيّئة، ولكن يمكن للمتابع لكل كتب الفقه الإسلامي على مختلف المذاهب أن يجد باباً يسمّونه «باب الردّة» أو «حكم المرتدّ»، تحدّد فيه التصرفات والأفعال والأقوال التي تؤدي بفاعلها الى الخروج من الإسلام.
وقد ثبت بالشواهد التاريخية والعلمية أنّ الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة من بعده وعلماء المملكة العربية السعودية من أكثر الناس احتياطاً في وضع الضوابط التي تضبط هذا الحكم الشرعي من أن يُساء فهمهُ أو تطبيقهُ بغير علم أو دراية دقيقة، بل إنهم شدّدوا على الالتزام بما كان عليه السلَف الصالح في موضوع التكفير وخطورته وتعظيم حُرمته بحيث أصبح أكثر وضوحاً من عدد من المذاهب الإسلامية الأخرى، ويبرز ذلك من خلال القواعد المشهورة في الكتب والرسائل المعتمدة، بحيث كان الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب «من أعظم الناس توقّفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر حتى إنّه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسّر له مَن ينصحه ويبلغه الحجّة التي يكفَّرُ مرتكبها».
وأما فتاوى علماء العربيّة السعودية المعاصرين فهي كثيرة جداً في التحذير من التكفير والتطرّف والغلوّ، ومواقف وبيانات هيئة كبار العلماء كانت على الدوام تحذّر من أفكار التكفير والغلوّ والتطرّف وأعمال الإرهاب قبلَ أحداث أيلول عام 1989م وما بعدها.
وقد أشار أحد بيانات هيئة كبار العلماء عام 1999م بالآتي: (التكفير حكم شرعي، مردّه الى الله ورسوله، فكما أنّ التحليل والتحريم والإيجاب الى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وُصف بالكفر من قولٍ أو فعل، يكون كفراً أكبر مُخرجاً من الملّة، ولما كان مردّ حكم التكفير الى الله ورسوله لم يُجِز أن نكفّر إلّا مَن دلّ الكتاب والسنّة على كُفره دلالةً واضحةً، فلا يكفي في ذلك مجرّد الشبهة والظنّ، لما يترتّب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تُدرأ بالشبهات، مع أنّ ما يترتّب عليها أقلّ ممّا يترتّب على التكفير، فالتكفير أولى أن يُدرأ بالشبهات؟ ولذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم بالتكفير على شخصٍ ليس بكافر، فقال: أيّما امرئٍ قال لأخيه: يا كافر، فقد باءَ بها أحدهما، إن كان كما قال وإلاّ رجعت عليه.
وقد يرد في الكتاب والسنّة ما يُفهم منه أنّ هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كُفر، ولا يكفَّر مَن اتّصفَ به، لوجود مانع يمنع من كفره، وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلّا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها كما في الإرث، سببه القرابة مثلاً، وقد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدين.
وقد ينطق المسلم بكلمة الكفر لغلَبةِ فرحٍ أو غضبٍ أو نحوهما، فلا يُكفَّر لعدم القصد. فالتسرّع في التكفير تترتّب عليه أمور خطيرة من استحلال الدم والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح، وغيرها مما يترتب على الردّة، فكيف يسوّغ لمؤمنٍ أن يُقدم على مسألة التكفير لأدنى شُبهة؟، وهذا ما رفضه فقهاء وعلماء المسلمين قديماً وحديثاً. فمهمّة العلماء الدعوة الى التوحيد والتراحم والتعارف والتلاقي ونشر ثقافة السلام والرحمة بين الناس.
وقد جاء في أحد بيانات هيئة كبار العلماء ما يلي: (إنّ المجلس يعلن للعالم أنّ الإسلام بريء من هذا المعتقد الخاطئ «التكفير»، وإنّ ما يجرى في بعض البلدان من سفكٍ للدماء البريئة وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت هو عمل إجرامي، والإسلام بريء منه، وهكذا كلّ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر بريءٌ منه، وإنما هو تصرّف من صاحب فكرٍ منحرف، وعقيدة ضالّة، فهو يحمل إثمه وجُرمه، فلا يُحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهديِ الإسلام، المعتصمين بالكتاب والسُنّة، المستمسكين بحبل الله المتين، وإنّما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة، ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعةً بتحريمه محذّرةً من مُصاحبة أهلهِ).
قال الله تعالى {ومن الناس من يُعجِبْكَ قولُهُ في الحياة الدنيا ويُشْهدُ الله على ما في قلبهِ وهو ألذُّ الخصام}. وقال عزّ وجل {وإذا تولّى سعى في الأرض ليُفسدَ فيها ويُهلِكَ الحرْثَ والنسلَ والله لا يحبُّ الفساد}.
والواجب على جميع المسلمين ولا سيما العلماء منهم في كلِّ مكان التواصي بالحق، والتناصُح، والتعاون على البرِّ والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحِكمة والموعظة الحسنَة، والحوار بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه وتعالى {وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثمِ والعدوان واتّقوا الله إن الله شديدُ العقاب}.
وقال سبحانه {والمؤمنون والمؤمنات بعضُهم أولياءُ بعضٍ يأمِرونَ بالمعروف ويَنهَون عن المُنكر ويُقيمون الصلاة ويُؤتُون الزكاة ويُطيعونَ الله ورسولَهُ أولئكَ سيرحمُهُم الله إنَّ الله عزيزٌ حكيم}. وقال النبيّ صلى الله وسلّم (الدين نصيحة، قيل لمَنْ يا رسول الله؟
قال: لله ولكتابِهِ ولرسولِهِ ولأئمّةِ المسلمينَ وعامّتهم). وقال عليه الصلاة والسلام (مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمِهِم وتعاطُفِهِم مَثُلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمّى).
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ومتعدّدة، ومن أجل ذلك فإنّ ثقافة التكفير ليست لها مكان في ثقافتنا الإسلامية المستمدّة من كتاب الله وسُنّة نبيّهِ عليه الصلاة والسلام، وقد أجمع علماء السلَف والخلَف على هذا التوجّه، لأنّ الإسلام في أساسه هو دعوةٌ لعبادة الخالق ونشر السلام وثقافة التراحم بين خلق الله أيّاً كانوا في كلِّ زمانٍ ومكان.
وما شذَّ عن ذلك فهو خروج عن إجماع المسلمين كما خرج مَنْ كان قبلَنا على ما نزل من صحفِ سيّدنا إبراهيم وتوراة سيّدنا موسى وإنجيل سيّدنا المسيح عيسى بن مريم صلوات الله عليهم جميعاً.
فليُقلِعْ أعداء العربِ والمسلمين عن مسألةِ التكفير وتغذية دُعاتها، لأنّ علماء الإسلام في المملكة العربية السعوديّة ومِصرَ وغيرها من البلدان العربية والإسلامية سيتصدّونَ كما هو حال علماء الأمّة لكلّ ثقافةٍ تهدرُ دماً أو تُفسِد في الأرض التي أرادها سبحانه وتعالى أن تكونَ لخدمة الإنسان الذي كرّمه الله تعالى.