تحوّلت أزمة تلزيم أعمال ردم الحوض الرابع في مرفأ بيروت من صفقة بالتراضي تشوبها مخالفات كبيرة عقدتها لجنة إدارة المرفأ، إلى أزمة إدارة مصالح صغيرة بين قوى النفوذ المسيطرة على المرفأ. وتحوّل الخلاف من دراسة الجدوى واحتساب المنافع والمخاطر إلى خلاف طائفي يتصل بحصّة «المسيحيين» في المرافق العامة ورغبتهم في الإبقاء على دور مرفأ بيروت معبراً أساسياً لإعادة الإعمار في سوريا لاحقاً. هذا الملف بمستوياته المختلفة ليس مطروحاً لمساءلة الذين نفذوا صفقة التراضي، ولا لإعادة توزيع شبكة المصالح الفئوية، ولا لتحديد دور مرفأي بيروت وطرابلس استراتيجياً وتنموياً. المطروح باختصار هو استكمال ردم الدولة، سواء رُدم الحوض الرابع أو لم يُردم
ثمة فوضى عارمة في مقاربة ملف تلزيم ردم الحوض الرابع في مرفأ بيروت. تستوجب القضية تفصيلها إلى ثلاثة مستويات ليست بالضرورة مترابطة، خلافاً للخلط الحاصل حالياً. المستوى الأول يتعلق بوجود صفقة بالتراضي بقيمة 129.9 مليون دولار، وهي مخالفة لقانون المحاسبة العمومية ولأصول التلزيمات. المستوى الثاني مرتبط بالنقابات الثلاثة العاملة في مرفأ بيروت، التي تمكّنت من تركيب مصالحها الخاصة والضيّقة على الحسابات الطائفية للأحزاب المسيحية. أما المستوى الثالث، فيتعلق بالجدوى الاقتصادية من توسيع مرفأ بيروت وردم الحوض الرابع وجعله متخصصاً في استقبال الحاويات بعد نقل جزء من قدراته الاستيعابية للبضائع العامة إلى مرفأ طرابلس.
صفقة «الإلحاق»
تعود قضية تلزيم توسيع مرفأ بيروت إلى شهر آذار من عام 2012. يومها قرّرت لجنة إدارة المرفأ أن «تفتح» باب التلزيمات في المرفأ الغربي «على حسابها». اتخذت قراراً يتضمن «الموافقة على تنفيذ أشغال ردم الحوض الرابع على أساس إلحاقها بعقد التلزيم الأساس الموقع سابقاً مع شركة بيل ــ حورية. وسنداً لقراري لجنة الإدارة رقم 11/2012 ورقم 26/2013 جرى تلزيم المتعهد بيل ــ حورية أشغال المرحلة الثانية من مشروع توسعة محطة المستوعبات في مرفأ بيروت، وذلك بموجب عقد اتفاق بالتراضي ملحق بالعقد السابق الموقع مع المتعهد في 22/6/2009 الذي يتطرق إلى تلزيم أشغال المرحلة الأولى من المشروع ذاته»!
قصدت لجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت بـ«المشروع ذاته» المناقصة التي أطلقتها لتوسيع المرفأ الشرقي لغاية مصبّ نهر بيروت ورست على تحالف «بيل ــ حورية» في حزيران 2009 بكلفة 128.8 مليون دولار. فقد رأت اللجنة أن لا ضرورة لإجراء مناقصة ثانية لتلزيم أشغال المرفأ الغربي بقيمة 129.9 مليون دولار، وأصدرت فتوى تناقض كل أصول قانون المحاسبة العمومية والقوانين اللبنانية، لتشرّع لنفسها توقيع صفقة بالتراضي «إلحاقاً» لصفقة سابقة! الفتوى كانت مبتكرة إلى درجة أن التلزيم بالتراضي جاء استناداً إلى موافقة مجلس الوزراء على «لائحة أشغال ملحوظة على المدى المنظور لتوسيع المرفأ». والمذهل فيها، أيضاً، أنها تبيح تلزيم كل الأشغال التي يمكن إدراجها في خانة توسيع المرفأ وقس على ذلك مشاريع قد تندرج في هذه الخانة لسنوات طويلة مقبلة!
مصالح وأثمان
في المحصّلة، وقّعت إدارة المرفأ عقود التراضي مع «بيل ــ حورية» غير آبهة للاعتراضات السياسية، لكنها لم تتوقع أن يخرج معترضون من رحم المرفأ نفسه. اعترضت نقابات سائقي الشاحنات العاملة في المرفأ، ومخلّصي البضائع الجمركيين، ووكلاء البواخر. مصالح هؤلاء لا تتوافق مع مخطط الإدارة لتوسيع المرفأ، فيما لديهم قدرات هائلة للاعتراض. تمكّن وكلاء البواخر من إقناع مسؤولي الأجهزة الأمنية العاملة في المرفأ بتوافق مصالحهم مع مصالح النقابات، وهو ما استدعى من رئيس الحكومة وقتها، نجيب ميقاتي، أن يطلب من إدارة المرفأ إفادته عن حقيقة الخسائر الناتجة من ردم الحوض الرابع، وعن حقيقة المعلومات المتداولة عن شركة بيل الدانماركية ــ شريكة حورية التي تفيد بأنها أفلست في موطنها.
تمثّل النقابات مصالح قوى النفوذ في المرفأ، فالمعروف أن القوى السياسية تتقاسم هذه المواقع من خلال مخلصي البضائع والأجهزة الأمنية ووكلاء البواخر ونقابات النقل. وبالتالي لا مصلحة لأي من هؤلاء بأن تتوقف أعمالهم نتيجة توسيع المرفأ وردم الحوض الرابع، نظراً إلى أنّ هذا الحوض يوفّر لهم بيئة مناسبة «للسمسرة» و«الفساد». فالأرصفة على الحوض الرابع مخصصة لاستقبال البضائع «الدكمة» التي لا تُنقل بواسطة المستوعبات، ومنها سلع فائقة الأهمية كالحديد والسكر والقمح والسيارات والمواشي وغيرها… وهذه السلع تمثّل مصدر أساسي للريوع غير المنظورة وتقاسمها مع باقي مواقع النفوذ والفساد، إلا أنه في رأي النقابات أنّ ردم الحوض الرابع وتخصيص مساحات أكبر للمستوعبات، سيكون على حساب المساحات المخصصة لتنزيل وتحميل وتفريغ البضائع «الدكمة»، ما يخفض أو يلغي أعمال النقابات ويقلص «الإكراميات».
عند هذا الحدّ كانت قوّة الاعتراض قد دفعت الرئيس ميقاتي إلى تجميد المشروع، لكنها لم تتوصل إلى إلغائه. وعندما تسلّم الرئيس تمام سلام رئاسة الحكومة وحلّ وزير الأشغال غازي زعتير بدلاً من الوزير غازي العريضي، أخذ المشروع منحىً مختلفاً. فقد أقرّ زعيتر في كتاب موجّه إلى سلام بأنّ العريضي هو من صدّق على التلزيم، وأوضح أن «إعداد المشروع وإطلاقه وتلزيمه اقترن في حينه بمصادقة وزارة الاشغال العامة والنقل قبل عام 2014». ولم يرد زعيتر بالتعليق سلباً أو إيجاباً على هذا الموضوع، بل التزم موقف الحياد السلبي الذي يبرز موقف لجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت لجهة مبررات التلزيم وقانونيته، وكتب لسلام: «التفضل بالاطلاع وإعطاء التوجيهات لناحية طلب إدارة مرفأ بيروت تأكيد نظامية قراراتها السابقة لهذا المشروع وفق ما ورد في كتابها عدد 1531 تاريخ 12/3/2014، وذلك لكي تتمكن من متابعة تنفيذ الأشغال وفق مندرجات عقد التزيم الجاري مع المتعهد».
الحياد السلبي لم يكن مجانياً، وفق ما يؤكد بعض المتعهدين! وهو ما سهّل في تشرين الأول 2014 على سلام إعطاء «الموافقة على الإيعاز إلى إدارة المرفأ بمتابعة تنفيذ الأشغال بالاستناد إلى تأكيد نظامية قرارات اللجنة». لم يكلّف زعيتر ولا سلام الدوائر المعنية والمستشارين القانونيين الاستفسار عن مدى قانونية قرارات اللجنة، بل وافقا على مبررات إدارة المرفأ من دون أي تحفظ.
الاعتراض بالتطييف
في المقابل، كانت قوّة المعترضين تتعاظم. فجأة أصبحت مصالح «النقابات» مرتبطة بحصة المسيحيين من مرفأ بيروت. تمكن المعترضون من استقطاب الكنيسة والأحزاب المسيحية المتناقضة وإجبارها على الاصطفاف صفاً واحداً في وجه مشروع إدارة المرفأ. هذه الأحزاب ليس لديها القدرة على التملّص من مطالب أصحاب المصالح الكبرى في بيروت وجبل لبنان، وباتت محرجة مع مطالب مخلصي البضائع وكبار مستوردي البضائع الدكمة ووكلاء البواخر. منطق هؤلاء الذي فرض نفسه على الأحزاب المسيحية، والمبني على معطيات ميدانية قدّمتها نقابة مخلصي البضائع عن أعمال التوسيع في المرفأ، يفيد بأن ردم الحوض الرابع واعتماد المواربة من قبل إدارة مرفأ بيروت في إعلان موقفها من المساحات التي ستخصصها لاستيراد البضائع الدكمة، سيحوّلان مرفأ بيروت إلى مخزن ضخم للمستوعبات (الكونتينرات) وسيلغي وظيفة مرفأ بيروت في استقبال البضائع «الدكمة»، وهذا سيجعل مرفأ طرابلس بديلاً من مرفأ بيروت في هذا النشاط. وبالتالي إن كل الوظائف في تخليص المعاملات وأعمال الشركات المعنية ووكلاء البواخر وغيرهم من الجهات التي تمثّل عناصر شبكة المصالح في المرفأ ستنتقل إلى مرفأ طرابلس. في عرف أصحاب المصالح أنهم سيخضعون للنفوذ في مدينة ذات غالبية مسلمة، غالبية العاملين في هذا المجال هم من المسيحيين. بمعنى أن جزءاً من الريوع التي يدرّها نشاط استيراد البضائع «الدكمة» سيذهب إلى مراكز النفوذ القائمة في طرابلس بدلاً من مراكز النفوذ القائمة في بيروت وجبل ولبنان.
أي دور للمرفأ؟
يجعل المشروع المطروح من مرفق حيوي مثل مرفأ بيروت أقرب إلى عقار ضخم فيه مستوعبات فقط، أما الأعمال المتصلة بتجارة البضائع الدكمة فستنتقل إلى مرفأ طرابلس. هذا صحيح، ولكن ماذا عن جدواه؟ هذا بحث آخر لا يمت بصلة إلى الخطاب الطائفي الراسخ. فالاعتراضات سواء كانت تحمل بعداً طائفياً أو تنطوي على شبكة مصالح ومغانم وفساد، لا تجيب عن سؤال أساسي: هل صحيح أن توسيع المرفأ مضرّ بوظيفته الاقتصادية؟ الإجابة عن هذا السؤال تقودنا نحو مجموعة أسئلة تتعلق بمصير المرفأ وبموقعه الاستراتيجي. فالنقابات الثلاث تتذرّع بأن توسيع المرفأ وتخصيصه باستقبال الحاويات، ليس مبرّراً على المدى المتوسط، خصوصاً أن نسبة استعمال المساحات في محطة الحاويات لا تتجاوز 45% في حدّها الأقصى، وأن هناك سعة إضافية لنحو 2.4 مليون مستوعب. فضلاً عن أن نموّ حركة الاستيراد والتصدير العامة من خارج نطاق الحاويات، هو أعلى من تلك التي تصدر وتستورد بحاويات، فيما الحوض الرابع المنوي ردمه هو من أكبر الأحواض في شرق المتوسط وأعمقها، ما يسمح له باستقبال البواخر الكبيرة العملاقة التي تصل حمولتها إلى 50 طناً وتتطلب عمقاً يزيد على11 متراً. كذلك ترى النقابات أن المرفأ لا يعمل بطاقته القصوى، وأن عملية ردم محطة الحاويات وتوسيعها غرباً ستكون لها آثار سلبية على تحويل مرفأ بيروت إلى معبر أساسي لخطوط الإعمار المتجهة صوب سوريا بعد انتهاء أزمتها.
كلام النقابات عن خطوط الإعمار، يستند بصورة أساسية إلى أنّ المكوّن الأساسي في واردات البضائع الدكمة هي الحديد. لاحقاً تبيّن أن مستوردي الحديد عقدوا اجتماعات عديدة مع رئيس لجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت حسن قريطم، وأبلغوه هواجسهم الكامنة في تداعيات ردم الحوض الرابع وتأثيرها على تجارتهم. وقد أوضحت مصادر مطلعة على اللقاءات، أن تجار الحديد تبلّغوا في الاجتماعات أن بعض الأرصفة ستبقى لخدمتهم في مرفأ بيروت وأن استقبال البضائع الدكمة لن يستغنى عنه. يقول قريطم لـ»الأخبار» إن الرصيف المنشأ بعد ردم الحوض الرابع سيكون متعدد الاستعمالات، فـ»الحوض الجديد سيكون مخصصاً لجميع البضائع وستكون هناك مساحات مخصصة للبضائع الدكمة مع أفضلية لها». كذلك يؤكد أنه «يجري تطوير الرصيف ليصل عمقه إلى 15.5 متراً، وطوله إلى 540 متراً، وهو ما يؤهل لبنان لاستقبال البواخر الكبيرة والعملاقة، وهذا يعني أن التركيز على عمق الحوض الرابع لمعارضة ردمه أمر غير دقيق». وبالتالي تصبح «ذرائع النقابات غير واضحة، ولا سيما أن أرصفة المرفأ هي على النحو الآتي: الأرصفة 13 و14 و15 في الحوض الرابع وعمقها 11 متراً وسيتم تحويل الرصيف 14 الجديد بعد ردم الحوض الرابع إلى عمق 15.5 متراً. الأرصفة الجديدة في محطة المستوعبات تراوح أعماقها بين 15.5 متراً و16.5 متراً. الرصيف 12 عمقه 13 متراً، وهو الذي يستقبل حالياً البواخر التي يبلغ وزنها 50 ألف طن».
تثير هذه المعطيات هواجس من نوع مختلف، إذ يجب تطوير مرفأ طرابلس في موازاة تطوير مرفأ بيروت ليتمكن الأول من أن يلبّي الحاجات التي يتطلبها الإعمار في سوريا، وليصبح الثاني متخصصاً بالمستوعبات، فضلاً عن أن تطوير مرفأ طرابلس يعدّ خطوة أساسية في تنمية منطقة الشمال وحمايتها من زحف الفقر المستمر. وبالتالي هناك مصلحة وطنية في تطوير هذا المرفأ لتعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. عند هذه النقطة يسأل الوزير السابق يعقوب الصرّاف: لماذا لا يجب تنمية مرفأ طرابلس أصلاً؟ ألا يمكن مسيحيي الشمال أن يعملوا أيضاً؟ ألم تلحظ الخطة الشاملة لترتيب الأراضي في لبنان أن يؤدي مرفأ طرابلس دوراً أساسياً في عمليات الترانزيت في اتجاه الدول العربية، وأن يكون مرفأ بيروت متخصصاً بالمستوعبات؟ ألا يندرج هذا الأمر ضمن منطق اللامركزية؟ يجب العمل على إزالة الضغط عن بيروت وتوزيعه على المناطق، وهي في حاجة للانتعاش والازدهار. يشير الصراف إلى أن التوجّه العالمي للمرافئ هو توسيع أحواضها وأعماقها من أجل استقبال بواخر أكبر من 50 ألف طن وتتطلب أعماقاً كبيرة تزيد على 13 متراً. هذا التوجه العالمي، يجب أن يكون ملحوظاً من قبل أي خطّة موضوعة للمرفأ. فإذا كانت الأعماق في مرفأ بيروت قادرة على استيعاب السفن الضخمة والعملاقة، فلماذا لا يكون توسيع المرفأ الغربي واجباً حتى يكون متلائماً مع متطلبات السنوات العشر المقبلة وينسجم مع تنافسية مرفأ بيروت بين مرافئ المتوسط ويمنحه أفضلية عليها. أما إذا لم يكن هناك غير الحوض الرابع ضمن هذا العمق، فإن الاعتراضات يكون لها مبرّر يتلاءم مع ضروراتها.
النقطة الثانية التي يجب البحث عنها، في رأي الصراف، هي مصادر ربحية مرفأ بيروت، فإذا كانت الربحية الأساسية ناتجة من استقبال المستوعبات يجب توسيع المساحات المخصصة للمستوعبات بالتوازن مع متطلبات انواع التجارة الأخرى. أما إذا كانت الربحية متأتية من تجارة البضائع الدكمة، فليس من المجدي توسيع محطة المستوعبات كثيراً.
التخفيف عن المدينة
في السياق نفسه، يقول الخبير في شوؤن النقل رامي سمعان، إن أعماق الأحواض في مرفأ بيروت جيدة ويمكنها أن تستوعب البواخر العملاقة، لكن توسيع المرفأ الغربي أمر مبرّر نظراً إلى زيادة كبيرة في النقل بواسطة الحاويات، علماً بأن هذا المنطق التجاري العالمي ينمو بسرعة كبيرة وسيرتّب على المرفأ كلفة كبيرة «لكن على الدولة أن تقرّر أي دور سيؤديه مرفأ بيروت بوصفه عنصراً ضاغطاً على المدينة ويثقلها بأعباء اجتماعية واقتصادية». ولعلّ طرح موضوع ردم الحوض الرابع «على أنه مسألة حياة أو موت أمر مبالغ فيه كثيراً، وقد أعطي صبغة طائفية ضمن فولكلور لبناني معروف، فإذا كانت الوجهة الحكومية لاستراتيجية المرفأ ودوره المستقبلي تقضي بأن يستقبل بضائع عامة (دكمة)، فعندها يمكن إيجاد حلّ وسطي يتعلق بردم جزء من الحوض الرابع وليس كلّه، علماً بأنه في كل الحالات لا يمكن الاعتماد كلياً على إلغاء فكرة استقبال البضائع العامة في مرفأ بيروت لكن حصتها من المساحات ستنخفض».
منطق سمعان، يبرّر الجدوى الاقتصادية، لكنه لا يبرّر صفقة من هذا النوع، أي أن تكون صفقة فاسدة بالتراضي، وهو ما يلزم أجهزة الرقابة التحرّك وملاحقة المرتكبين.
في الواقع، ليست هناك حلول متاحة خارج المنطقة العقارية التابعة للمرفأ. فالتوسع في اتجاه الشرق يصطدم بالمسلخ وبنهر بيروت، أما التوسع الغربي فقد اصطدم بسوليدير ولم يعد ممكناً الاستغناء عن المرفأ السياحي المنشأ هناك بعدما استولت هذه الشركة على الأملاك العامة المردومة بقرار سياسي. هكذا يبدو مرفأ بيروت. محاصر من كل الجهات. طوّقته السياسة ومصالح سوليدير، وحاصرته الطائفية وشبكة النفوذ الفاسدة، وضربته الدولة الفاشلة.
حصار عقاري
حوصر المرفأ عقارياً من قبل شركة «سوليدير»، التي استولت على أملاك الحوض الأول بقوّة نفوذ الرئيس الراحل رفيق الحريري (المالك الأكبر). جرى ذلك عبر التصويت في مجلس الوزراء أيام كان (الرئيس) نجيب ميقاتي وزيراً للأشغال العامة و(الرئيس) إميل لحود رئيساً للجمهورية. ففي 19 حزيران 2001 صدر المرسوم رقم 5714 الذي يعدّل التصميم التوجيهي العام والنظام التفصيلي لمنطقة وسط بيروت التجاري. هذا المرسوم منح شركة سوليدير الأراضي التي ردمتها غرب مرفأ بيروت والتي تقع حالياً بين الحدود الغربية للمرفأ و»البيال». وبحسب المطلعين، فإن هذا المرسوم عبارة عن بدعة كانت قد بدأت قبل سنوات، وهي تتضمن تمليك الشركات الخاصة مساحات من المناطق التي تردمها بتكليف من مجلس الإنماء والإعمار. فالدولة بإمكانها أن تحدّد إشغال المساحات المردومة التي انضمت ملكيتها إلى «أملاك الدولة الخاصة» التي يخضع نقل ملكيتها لسلسلة إجراءات مبنية على حاجة الدولة لبيع أملاكها. وبنتيجة المرسوم المذكور حصلت سوليدير على العقارات التي ردمتها بتكليف من مجلس الإنماء والإعمار، فطوّقت مرفأ بيروت ومنعته من استعمال أراضي الدولة في سبيل المنفعة العامة. وبموجب الأنظمة التفصيلية للمنطقة المستحدثة بالردم، فقد صنّفت الأراضي المستحدثة على أنها مناطق سكنية لإعدام أي أمل باسترداد الدولة لأملاكها واستثمارها في توسيع المرفأ إذا اقتضت المصلحة العامّة.