رأى المفكر الراحل كمال يوسف الحاج في رئيس الجمهورية المسيحي رسالة مزدوجة إلى الداخل اللبناني وإلى العالم العربي، واعتبر مشاركة الرئيس اللبناني في القمم العربية تمثيلاً لدولته وللمسيحيين العرب في آن واحد.
هذا الرئيس يتعذّر انتخابه لأسباب معقّدة، والقمة العربية تبدو متعذّرة ليس لعجز اللبنانيين عن انتخاب رئيسهم، وإنما أيضاً لكون رئيسَيْ العراق وسورية لا يمتلكان السيادة التامة على بلديهما بعدما اقتطعت معارضات مسلحة حوالى نصف مساحة كل من البلدين، فضلاً عن استحالة حضور رئاسي لليبيا الممزّقة ولليمن الواقع في قبضة مسلحين غير شرعيين.
التأجيل غير المبرّر لانتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية يُلقي بثقله على مجلس النواب والحكومة لتنشأ خلافات إجرائية بين مسؤولين ليس لهم رأس. هنا يعلو صوت النائب ميشال عون داعياً هذه المرة إلى تحرُّك شعبي للمطالبة بما يسميه «حقوق المسيحيين السياسية»، ويتوقّع قريبون منه اعتصاماً قرب القصر الحكومي أثناء جلسة مجلس الوزراء، لكن عون وتيّاره يوحيان بتحركات أوسع تُطاول بنى الدولة وتنفَّذ فجأة في وزارات ومؤسسات عامة.
حماسة عون وتياره لا تخفى، كما لا يخفى البرود لدى حلفاء عون وخصومه، وحتى رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع اعتبر وضع المسيحيين جيداً «وليس كما يهوّل البعض»، مشيراً إلى عون الذي وقّع مع جعجع اتفاقاً لحسن النيات اقتضى إعداده مفاوضات مديدة بين الفريقين الرئيسيَّيْن للمسيحيين اللبنانيين.
لا التحركات ولا الاعتصامات ولا وقف العمل في الإدارات الرسمية تُجدي سياسياً، في بلد انقسم رأيه العام عمودياً، واقتطع كل زعيم طائفة قسماً منه يديره كما يشاء في رباط عاطفي مشحون بتخويف الآخر والخوف من الآخر. والأدهى، أن عون أو مؤيديه يحمّلون «تيار المستقبل» مسؤولية ما يسمّونه «التّردّي السياسي للمسيحيين»، ولا يشيرون إلا قليلاً إلى الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط اللّذين يوافقان الرئيس سعد الحريري في الحدّ من غلو التيار العوني. عند هذه النقطة يصل العونيون إلى حدود المحظور، لأن التركيز على «تيار المستقبل» يمكن تحميله معنىً طائفياً يطاول السنّة اللبنانيين وربما امتدادهم في المشرق العربي. لا نعتقد أن عون يذهب إلى هذا الحدّ، لكن كلام مساعديه يقلق اللبنانيين الذين يعتبرون «المستقبل» تياراً يمثّل الاعتدال بالمعنى الطائفي والانفتاح بالمعنى الوطني، وتصبّ مواقفه في تدعيم استقرار لبنان الذي يتعرّض لضغوط الداخل السوري والعراقي.
خوف المسيحيين مبرّر، ولكن ليس كما يطرحه سياسيون يضيفون إلى الطائفية قسوة لم تعرفها في معظم تاريخ لبنان القائم على الاعتراف وعلى التوازن الدقيق بين حق المواطنة وحق طائفي لا يتعدى حقوق سائر الطوائف. وإذا كانت مآسي مسيحيي العراق، وإلى حد ما سورية، تدفع إلى حفظ حقوق مسيحيي لبنان ليبقوا نواة استعادة حرية العقيدة في المشرق، فتحقيق هذا الهدف لا يكون بإشعال صراع طائفي جديد في بلد أرهقته حرب أهلية مديدة سمّاها اللبنانيون تنصُّلاً: «حروب الآخرين».
ما يحدث في الداخل السوري والعراقي يخيف المسلمين والمسيحيين، فهم تعرّضوا معاً للتهجير من دولة «داعش» منذ سيطرتها على الموصل وحتى الامتداد في العراق وسورية. شعب توحّده المأساة عملياً ولا يستطيع زعماؤه التعبير عنها سياسياً، وصولاً إلى التركيز على دولة القانون والمواطنة المتساوية.
ولئلا يكون لبنان ثقباً أسود يهترئ شعبه داخل دويلات من جسم الدولة أو شبه الدولة أو ركام الدولة، يجب الاعتراف بإيجابية الطائفية السياسية في لبنان القائمة على الاعتراف المتبادل وكشف الستار عن دخائل الحراك الطائفي، وبسلبيتها حين تأخذ التنوُّع نحو الصّدام وربما الحرب بدل اعتباره غنىً ثقافياً.
ويظهر أن إيجابيات الطائفية أنقذت لبنان حتى اليوم من مصير مجتمعات طائفية مثل العراق وسورية، كان يتم التعتيم على حقيقتها بل خنقها بقوة ديكتاتورية تستعرض مجتمعها الواحد الموحّد على صورة الحاكم ومثاله.